يتفق كثير من فقهاء القانون العام على القول ان النظام الفيديرالي يعتبر النظام الاصلح للدول ذات القوميات المتعددة اذا كانت تتخذ من الديموقراطية اسلوباً للحكم. ولم يأت التركيز على ربط الفيديرالية بالديموقراطية جزافاً، لأن تجارب الحكم في دول كانت تعتبر فيديرالية لكنها كانت بعيدة عن الديموقراطية انتهت بالفشل او بالتفكيك احياناً، كما حدث في العديد من دول اوروبا الشرقية وفي مقدمها الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا. ويعد العراق من الدول ذات القوميات والاثنيات والطوائف المتعددة والتي فشلت انظمة الحكم فيها منذ تأسيسها ولحد الآن في تقديم الحلول لمشاكلها الناجمة عن هذا التنوع بسبب تمركز السلطة في المركز الذي دأب على قهر معظم القوميات والطوائف فيها. لقد تشكلت الدولة العراقية في تموز 1921 بقرار من وزارة المستعمرات البريطانية عقب مؤتمر القاهرة الذي ترأسه وينستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني آنذاك. وضمت هذه الدولة ابتداء ولايتي بغداد والبصرة، واجريت عملية استفتاء شكلية شاركت فيها النخب لتنصيب الامير فيصل بن الحسين ملكاً عليها بعد قبوله بكل الشروط البريطانية. وسعت بريطانيا الدولة المنتدبة على العراق الى ضم ولاية الموصل الى هذه الدولة الفتية، لذلك اصدرت بالتوافق مع الحكومة العراقية الجديدة بياناً مشتركاً في 24 كانون الاول ديسمبر 1922 موجهاً الى الكرد في ولاية الموصل، يتضمن اقراراً بحقوقهم القومية بما فيها تأسيس حكومة كردية في المناطق التي يشكلون فيها الاكثرية. واصدرتا في الواقع هذا البيان لاسباب آنية، بسبب مطالبة حكومة تركيا الكمالية بولاية الموصل التي تقطنها غالبية كردية، ولقطع الطريق امام تنفيذ معاهدة سيفر المبرمة في 10 آب اغسطس 1920. لقد نصت المادة 64 منها على انه "اذا قدم في غضون سنة، ابتداء من تاريخ تنفيذ هذه المعاهدة، الشعب الكردي المقيم في المناطق المعنية بالمادة 62 طلباً الى جمعية الامم مفصحاً فيه بأن غالبية سكان هذه المناطق ترغب في ان تكون مستقلة عن تركيا، واذا آنست الجمعية المذكورة ان هذا الشعب قادر على الاستقلال، أوصت بذلك، فتتعهد تركيا من الآن بأن تعمل بهذه الوصية وتتنازل عن كل حقوقها وامتيازاتها في هذه المناطق. وستكون تفصيلات هذا التنازل موضوع اتفاق خاص يعقد بين اهم دول الحلفاء وبين تركيا. ففي حال حصول التنازل، وعندما يحصل، لا ترفع أية معارضة من قبل دول الحلفاء المذكورة نحو اتحاد الكرد المقيمين في جزء من اراضي كردستان الداخلة الى اليوم في ولاية الموصل اتحاداً بمحض ارادتهم مع حكومة الكرد المستقلة". لقد اقرت هذه المعاهدة الدولية أمرين مهمين، أولهما وجود شعب كردي له حق تقرير مصيره بنفسه على ان يباشره تحت مظلة المجتمع الدولي الذي كانت تمثله آنذاك عصبة جمعية الامم، وثانيهما ان جزءاً من اراضي كردستان الكبرى داخلة في ولاية الموصل ويحق لأبنائها الاتحاد بحكومة الكرد المستقلة. لكن المساعي البريطانية المتناقضة في الظاهر مع جهود حكومة انقرة بسبب اطماع كل منهما بالثروة النفطية الموجودة في كركوك والموصل، حالت دون تنفيذ نصوص معاهدة سيفر. وأدت مساعيهما الى ابرام معاهدة اخرى في لوزان في 22 تموز يوليو من عام 1923 نسخت عملياً بنود معاهدة سيفر. لقد عزز احتلال بريطانيا لمدن ولاية الموصل بعد ابرام معاهدة مودروس لوقف القتال عام 1918 من موقفها العسكري، كما أدت جهودها الديبلوماسية الى مصادقة عصبة الامم على قرار لجنة رسم الحدود بين العراقوتركيا في 16 كانون الاول 1925 مما أدى الى الحاق ولاية الموصل بالمملكة العراقية المستحدثة. ثم ابرم اتفاق آخر بين كل من بريطانياوتركياوالعراق في 5 حزيران يوليو 1926 سمي باتفاق أنقرة، سويت بموجبها قضايا الحدود المعلقة بين تركياوالعراق التي كانت تحت الانتداب البريطاني. لقد ابرمت معاهدة لوزان بمعزل عن إرادة الشعب الكردي مما أدى الى نشوب سلسلة من الانتفاضات والثورات الكردية التي سحقت من قبل القوة الجوية البريطانية وقواتها البرية، منها مهاجمة الطائرات البريطانية في 16 آب 1923 مدينة السليمانية واستخدامها القنابل الكبيرة للمرة الأولى في كردستان، واصبح هذا التدخل العسكري البريطاني امراً مألوفاً في كردستان حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. نستهدف من هذه الاشارة السريعة لكيفية الحاق ولاية الموصل بالدولة العراقية الوصول الى نتيجة فحواها ان انظمة الحكم العراقية فشلت منذ بداية تأسيسها تقديم حل مقبول للمسألة الكردية في العراق. ووصل الامر الى حد لجوء النظام العراقي القائم الى اساليب الابادة الجماعية تمثلت في عمليات الانفال التي أودت بحياة أكثر من 180 ألف مدني كردي خلال عام 1988، والى استخدام الاسلحة الكيماوية في قصبة حلبجة وفي العديد من القرى الكردية الاخرى خلال عام 1988 ايضاً، وإلى تدمير اكثر من 4500 قرية كردستانية وعدد من القصبات، وممارسة سياسة التطهير العرقي في مناطق من كردستان خاضعة حالياً لسيطرة النظام العراقي، واخيراً في تهجيره عشرات الالوف من العائلات الكردية الفيلية لاسباب عنصرية وطائفية. ويجب ان نشير في هذا المجال ايضاً الى ان ما اطلق عليه ب"الاستفتاء" الذي نظم عام 1924 في ولاية الموصل لمعرفة رغبات المواطنين فيها لم يشترك فيه غير الوجهاء والمختارين، وان مناطق عدة من كردستان قاطعت عملية الاستفتاء اصلاً. لذلك ينبغي إعادة تشكيل الدولة العراقية على اسس جديدة تأخذ بالاعتبار ليس فقط خصائص المسألة الكردية وكون الكرد قومية ذات وجود متميز من حيث اللغة والعرق والتراث والطموح المشروع والذي يعيش على رقعة جغرافية معلومة، بل وجود تنوع عرقي وديني وطائفي في العراق برمته. ويطالب الكرد بالفيديرالية منذ أمد يزيد على ربع قرن. ويشرفني القول هنا ان كاتب هذا المقال أعد دراسة متكاملة عن الفيديرالية في نهاية عام 1974 في لندن وقدمها في كانون الثاني يناير 1975 الى ممثل الحركة الكردية في بريطانيا لنشرها في كراس باللغة العربية وعرضها على الرأي العام الكردي. وأعددت هذه الدراسة بسبب قناعتي بعد تجدد القتال في كردستان في آذار مارس 1974 ان نموذج الحكم الذاتي لم يعد الاطار القانوني الذي بإمكانه حل المسألة الكردية في العراق. وعلى كل حال فقد تبنت الفعاليات والقوى السياسية الكردستانية الفيديرالية خلال الحملة الانتخابية التي سبقت انتخاب اول برلمان في كردستان في اواسط ايار مايو 1992. وتبني البرلمان الكردستاني باجماع آراء اعضائه قراراً في الرابع من تشرين الاول 1992اكتوبر باعتبار الفيديرالية نظاماً دستورياً، مع أمل بطرحه على الجانب العربي بعد رحيل النظام الديكتاتوري. وكانت المعارضة العراقية تبنت في مؤتمر فيينا المنعقد في حزيران 1992 قراراً بالاعتراف لشعب كردستان بممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه ولكن من دون الانفصال عن العراق. واتخذ هذا القرار باعتبار ان المسألة الكردية أهم قضية ينبغي ايجاد حل مقبول لها بسبب مسؤولية الانظمة العراقية كلها في تعقيدها منذ بداية تأسيس الدولة العراقية. وأقر المؤتمر التأسيسي الثاني للمؤتمر الوطني العراقي الذي انعقد في صلاح الدين بكردستان في اواخر تشرين الاول 1992 خيار البرلمان الكردستاني بتبني الفيديرالية، باعتبار ان هذا الخيار وجه من وجوه ممارسة حق تقرير المصير من قبل الشعب الكردي. واقر مؤتمر نيويورك المنعقد عام 1999 الخيار ذاته، وكذلك ممثلو اطراف المعارضة العراقية الستة لدى اجتماعهم مع المسؤولين الاميركيين في واشنطن في آب الماضي. وهناك اطراف عدة اخرى من المعارضة العراقية تمثل اليسار والوسط اعلنت مراراً قبولها خيار شعب كردستان وحقه في تقرير مصيره بنفسه. فهذه الاطراف جميعاً التي تمثل مختلف او معظم اطراف المعارضة العراقية اسبغت صفة الشرعية على هذطا الاختيار عراقياً، ولم يعد يعارض الفيديرالية الا بعض التنظيمات المرتبطة بهذه الدولة الاقليمية او تلك والمعادية اساساً لأبسط الحقوق الكردية. ويبرز الاشكال القانوني لدى البحث في كيفية تحديد الاطار الدستوري لعراق الغد مع تسمية اطراف العلاقة القانونية فيها. ويبرز في هذا المجال اتجاهان، احدهما يقوم على اساس دستوري، ويستلزم وجوب اقرار الفيديرالية من قبل اكثرية الناخبين من الشعب العراقي. ان مؤيدي هذا الرأي ينكرون في الواقع حق شعب كردستان في تحديد مصيره بنفسه. وهناك رأي آخر يذهب الى القول ان شعب كردستان هو الذي يقرر مصيره بنفسه، لذلك يجب اعادة تشكيل الدولة العراقية على اساس تعاقدي طرفاه اقليم كردستان والاقليم العربي من العراق. ومن ابرز المنادين بهذا الرأي الخبير القانوني المعروف الدكتور حسن الجلبي. سبق ان بينا ان برلمان اقليم كردستان العراق قد تبني صيغة الفيديرالية عام 1992، وهو بذلك يعرض هذه الصيغة على القسم العربي من العراق، فإن وافق بواسطة ممثليه الشرعيين على الصيغة المعروضة عليه، سارت الامور بوجهها الصحيح، اما اذا رفض هذه الصيغة، فلا يمكن فرض صيغة اخرى على اقليم كردستان بالقوة، لان الشعب العربي في العراق الذي يشكل الغالبية القومية فيه لا يستطيع ان يقرر مصير شعب كردستان الذي له وحده حق تحديد مصيره بنفسه. ويترتب على اقرار الفيديرالية بالصيغة التعاقدية بين اقليم كردستان والاقليم العربي، تمتع الاقليمين بحقوق متساوية ومتوازنة ايا كان حجم كل منهما، لان منطق الفيديرالية يقضي بالمساواة التامة بين جميع اطراف الاتحاد الفيديرالي، بصرف النظر عن الطاقات والثروات والامكانات والحجم الجغرافي لكل اقليم. والفيديرالية تعني ايضاً مشاركة الاطراف المكونة لها على اساس من المساواة في ادارة شؤون المركز، اي ان تكون للاقليمين حصة متوازنة في كل هيئات السلطة المركزية. ومن الواضح ان السلطة التشريعية في الدول الفيديرالية تمارس عادة من قبل مجلسين، احدهما يمثل عموم البلاد لانه يقوم على انتخابات عامة على نطاق البلاد، وهو ما يؤدي الى سيطرة الغالبية القومية عليه، وآخر يعرف بمجلس الشيوخ او مجلس الاقاليم يمثل الاقاليم بصورة متكافئة. ان الفيديرالية العراقية ينبغي ان تقوم على المشاركة العملية للاقليمين بقدر اكبر من السلطة في القضايا الاساسية وتشريع القوانين الفيديرالية حتى تكون مشاركة الاقليمين في اقرار السياسة العامة للدولة الفيديرالية قائمة فعلاً على المساواة وعدم التمييز بين الاقليم الاكبر والاقليم الاصغر. ويصح القول ذاته بالنسبة للسلطة التنفيذية المركزية، فيجب ان تكون مركبة من هيئة تمثل مختلف الطوائف والاقوام. ان تطبيق مبدأ المشاركة بصورة صحيحة يؤدي في النتيجة الى اقامة سلطة مركزية منيعة، مع الابقاء على حرية مضمونة لكل اقليم في تقرير شؤونه بنفسه. والفيديرالية كما بينا ابتداء مرتبطة بالديموقراطية التي تعني بوجه خاص امكان تداول السلطة عن طريق اجراء انتخابات حرة وصحيحة. والديموقراطية تعني ايضاً ضمان كل انواع الحقوق للمواطنين، وينبغي ادراج هذه الحقوق في الدستور الفيديرالي بطريقة عملية وتفصيل كل حق منها بصورة دقيقة وواضحة. والفيديرالية تستلزم ايضاً وجود محكمة دستورية عليا مهمتها ليس فقط الاشراف على تنفيذ القوانين، بل تفسيرها وحل الاشكالات القانونية التي يمكن ان تظهر بين السلطات المركزية وسلطات الاقليمين. ويجب ان يسرى حكم هذه المحكمة العليا على كل الجهات، ويحق ايضاً للافراد التقدم بشكواهم اليها، مع تحديد من يحق له تقديم الشكوى واجراءات ذلك. وبخصوص صلاحيات الاقليمين، ينبغي اعطاء صلاحيات واسعة لهما، مع تثبيت حدود كل اقليم وفقاً للمصادر التاريخية المعروفة لدى الجميع، مع تحديد الاختصاصات التي تتمتع بها السلطة المركزية، وكون الدولة برلمانية غير رئاسية، لان النظام الرئاسي يتحول تدريجاً في دول العالم الثالث الى دكتاتورية مقنعة. ونظراً للمآسي التي حلت بشعب كردستان وعدم ايفاء الحكومات العراقية المختلفة بالتزاماتها ولجوؤها الى طل المفاوضات مع الجانب الكردي كوسيلة لكسب الوقت، مع عدم ايمانها اساساً بالحقوق القومية لشعب كردستان، فقد تولدت لدى الكرد حالة مزمنة من عدم الثقة تبقي آثارها باقية لفترة طويلة من الزمن، خصوصاً وان بعض اطراف المعارضة السياسية الحالية شارك في تنفيذ سياسة القتل والتدمير قبل تركها لصفوف النظام. لذلك يجب اعطاء ضمانات كافية للاقليمين في الدستور الفيديرالي المقترح، كأن يكون البت في المسائل المهمة مرهوناً بموافقة مجلس الشيوخ او مجلس الاقليمين، كما هو في الدستور الاميركي، خصوصاً في الامور المتعلقة بقضايا السلم والحرب ورسم السياسة الخارجية للدولة. ان العراق كدولة متعددة الاعراق والاديان والطوائف بحاجة لنظام فيديرالي قائم على الارادة الحرة للاقليمين الكردستاني والعربي، ويجب ان تتوافر في هذين الاقليمين هيئات ومجالس منتخبة، تبدأ من القرية والقصبة وتنتهي في المدن الكبرى وينبغي انتخاب هذه الهيئات والمجالس من قبل ابنائها. كذلك ينبغي ان يقوم النظام الاداري في الاقليمين على اللامركزية بهدف ادارة شؤون المحافظات في الاقليمين بشكل يحقق طموحات ابنائها ويوفر لهم العيش الآمن الرغيد بعيداً عن التسلط. * كاتب عراقي كردي.