"أود أن أمسك القلم لأكتب شيئاً لا يتعلق بك". تكتب آية لحبيبها المقيم في برلين. منذ خمس سنوات، وهما معاً عبر الرسائل والهواتف. وفي الآونة الأخيرة، أضيف إليهما البريد الإلكتروني. هو بعيد منها ولن يعود. قرر الهجرة بعد أن رجع الجميع. هكذا هو، غير الآخرين، ولا تستطيع التنبؤ بقراراته. يعشق التنقل بين المطارات والمحطات... والحبيبات. قررت أخيراً تركه والانصراف لشؤونها بعد أن فقدت كل طعم للحياة بسببه. لعله من الأفضل القول من دونه. تلك الليلة عقدت العزم. أخذت نفساً عميقاً ورددت بصوت مرتفع "سأتركه". وبدأت منذ تلك اللحظة بالعد. "في الغد، وفي مثل هذه الساعة...". وهنا، توقفت لتسأل نفسها إن كانت ستصل إليها حقاً! لكنها تابعت بشجاعة "سيكون قد مضى على تركي له أربع وعشرون ساعة". وهي تقصد بتركها له، الامتناع عن التفكير فيه. "وكأن ذلك بيدي"، قالت في سرها. وتابعت محاولتها. لكن صوت أم كلثوم الذي يصدح بأغنية قديمة تحبها، كان يصعب عليها الأمر. امتدت يدها إلى زر الراديو وقطعت الصوت الذي تحبه. وحاولت أن تتلهى بالقراءة حابسة شقاءها في نفسها. الهواء محبوس هو الآخر في هذا الليل القائظ . تفطن فجأة إلى هذه الأحاسيس التي تحاول من دون جدوى، التخلص منها. تركن إلى آلامها وتعجب من حالها. وتخل بعقدها مع نفسها بعد دقائق. لماذا تحبه؟ هذه هي، لديها "موهبة" من نوع خاص في رمي نفسها في المآزق. تنهمر دموعها دون سابق إنذار... "لا أريد لك الشعور بالعذاب، هذه الأمور خلقت لتسعدنا" كتب لها يوماَ. لكن تأبى السعادة أن تأتيها معه. ولا تعرف كيف تتصرف معه أو من دونه. يشعرها بأنها تخنقه منذ سفره. في عودته الأخيرة كان شارداً معظم الوقت، وكانت تنظر إلى ساعتها خائفة من اقتراب موعد مغادرته. وتسأله إن كان بتعذيبه لها على هذا النحو ينتقم منها لرجال آخرين. ولا تكف عن الأسئلة "أثمة أحد يحبك مثلي"، وتجيب كما تود لو أجاب "لا، لا أحد يحبك كما أفعل". كان بعيداً وغائباً وشعرت بالنهاية من نظرته الشاردة. كم كانت تحب نظرته، ليس فقط... سافر، ولم يكلف نفسه مشقة توديعها. تستعيد ذلك لتساعد نفسها على تنفيذ قرارها. وتغفو ودموع تغزو وجهها ووسادتها. تلتقط سماعة الهاتف عند استيقاظها وعلى نحو آلي تطلبه. تغلق بسرعة قبل أن يرد وتبدأ بلوم نفسها "حمقاء، بعد كل ما فعله!". تستطيع هنا أيضا القول "بعد كل ما لم يفعله". تخرج إلى عملها. تمر عليها لحظات تبتعد فيها فجأة عما يحوطها لتروح معه في رحلة تشبه الموت في عذابها، تعود منها وانقباض يشلها وحزن يعتصرها. تتجول في شوارع بيروت التي تحبها محاولة ما أمكن الابتعاد عن أماكنهما وتتذكر ما كتبته له يوماً: "اقرأ "بريد بيروت"\ ولا أرى من بيروت سوى شارعك \ ومن بيوتها سوى بيتك \ ومن ناسها سواك\". انقضى يومها بين مد وجزر. وعادت مساء منهكة. ارتمت على سريرها. ثم بغتة قفزت وهي تردد فرحة "مضت أربع وعشرون ساعة".