منذ مطلع القرن الماضي وجدت مدينة معان الأردنية نفسها في نوبة حراسة طويلة، دفاعاً عن طريق الحج البرية من الشام الى الحجاز، حيث الصحراء مفتوحة على غارات القبائل البدوية، ومتروكة للفوضى والمجاعات في ظل تفكك الدولة العثمانية وعجزها عن التصدي للجيوش الأجنبية التي كانت تعبر معان وهي تذرع الرمال بين السويس والعقبة وبغداد. وظلّ هذا التاريخ يستعيد ملامحه وتفاصيله في مشهد المدينة وديموغرافيتها، ويفرض على قبائلها وراثة دور الدولة، حتى اصبحت معان عام 1920 العاصمة الأولى للهاشميين، بعدما كانت المحطة الأردنية الأولى التي عبرها البدو المناصرون للشريف علي بن الحسين عندما قاد الثورة العربية الكبرى ضد الحكم التركي عام 1916، وبنى له قصراً فيها قرب ساحة رملية واسعة، أصبحت لاحقاً المدينة الوحيدة التي تستضيف قوافل الحجّاج في جنوبالأردن. وتبعاً لموقعها الجغرافي توزعت هذه المدينة بين جهتين: شمالية تسمى "الشامية" وجنوبية تدعى "الحجازية" ويسودهما مناخ صحراوي جاف كثير الغبار صيفاً، وشديد البرودة والتقلب شتاءً، ودائماً تثير الرياح العاتية والأمطار الغزيرة مخاوف السكان الذين عاشوا أسوأ كارثة طبيعية في تاريخ الأردن عام 1966، عندما دهمتهم سيول وأعاصير قضت على المئات، وهدمت أحياء بأكملها. هذه المدينة التي تعدّ من أكثر مناطق المملكة فقراً وأحوالاً معيشية صعبة كانت الشهر الماضي مسرحاً لعملية أمنية شديدة التدابير دامت أسبوعين وأسفرت عن مقتل اربعة من سكانها واثنين من رجال الشرطة، وفتحت أمام الدولة ملفات بالغة الخطورة ليس أقلها تنامي ظاهرة التعصب الديني في التجمعات العشائرية الفقيرة التي باتت الأكثر تعرضاً لتبعات برامج التصحيح الاقتصادي وتحرير التجارة والخصخصة. ومن المفارقة أن معان التي قادت التحول الديموقراطي في الأردن عام 1989، عندما تحركت قبائلها وطلابها وعمالها في ما عرف بثورة نيسان أبريل احتجاجاً على ارتفاع اسعار المشتقات النفطية، وجدت نفسها في مواجهة الانقلاب الاقتصادي الذي قادته الحكومات والبنك الدولي ضدّ بنية القطاع العام في السنوات اللاحقة، ما الحق ضرراً فادحاً بقواها العاملة، حين وجدت نفسها في انتظار مبادرة القطاع الخاص الى التوجه نحو المشاريع التنموية في الصحراء القاحلة. ومنذ عام 1989، توالت في معان الاضطرابات، وكانت في مجملها تعبيراً عن حال استياء شديد على تهميشها وإقصائها خارج فاعلية الدولة ومشاريعها، فهي تحركت غضباً على ارتفاع أسعار الخبز عندما نصح البنك الدولي بذلك عام 1996، وأغلقت عسكرياً حين تضامن سكانها بقوة مع العراق الذي كان يواجه ضربة اميركية وبريطانية عام 1998، قبل ان تندلع فيها صدامات عنيفة بين العشائر والسلطات على خلفيات متنوعة، أبرزها التأييد الشعبي الواسع للانتفاضة الفلسطينية في عامي 2000 و 2001. الا أن ما ميّز أحداث الشهر الماضي عن سابقاتها أن الدولة هي التي تحركت الى المدينة هذه المرة، وقررت "استعادة هيبتها فيها" ولجأت الى اختبار قوتها في مواجهة العشائر في معان، والأحزاب والنقابات في عمان، وبينهما شارع متعاطف مع العراق وفلسطين، وأزمتان تنذران بحرب أميركية على بغداد، وهجرة قسرية محتملة الى المملكة يلوّح بها اليمين الاسرائيلي في وجوه الفلسطينيين والأردنيين معاً. وفيما كانت الدولة ترفع شعار "الأردن اولاً" في العاصمة عمان، وتؤلف لجنة موسعة للبحث عن مضامينه، كان الشعار الأمني أكثر وضوحاً في معان البعيدة من عمان مسيرة 225 كيلومتراً، والتي رسمت لها السلطات صورة مدينة "تؤوي عصابة مسلحة وخارجة على القانون، تنتمي الى تيار سلفي تكفيري، ويقودها متمرد على الدولة يدعى محمد الشلبي الملقّب ب"ابو سياف" وتؤازره عشائر مدججة بسلاح كثير آن الأوان لنزعه". "الحياة" جالت في أحياء معان وشوارعها ومتاجرها وسألت الناس عن مدينتهم بعد الحملة الأمنية والإغلاق العسكري والعزل التام عن سائر مدن الأردن: يقول محمد القرامسة وعمره 25 عاماً، وهو من بين آلاف من سكان المدينة العاطلين من العمل ان "كثافة القوة الأمنية التي حضرت الى معان لا تشير اطلاقاً الى أن هدف الحكومة القبض على عشرة اشخاص مطلوبين، فما حدث يؤكد أن المدينة بأكملها تعرضت لحملة تأديب لئلا تقوم لها قائمة بعد ذلك". ويوضح أن "عشرات المنازل البعيدة من مخابئ المطلوبين تعرضت لأضرار بالغة من اطلاق العيارات النارية" كما ان "الاعتقالات طاولت أشخاصاً لم يعرف عنهم اي توجه معارض للحكومة، بل ان بعضهم موظفون حاليون أو سابقون". وبغضب شديد، يؤكد أحد شيوخ القبائل ان "الشرطة أطلقت النار على ديوان عشيرته، وعبثت بمحتوياته، عندما كانت تبحث عن المطلوبين". ويقول ان "بيوتا كثيرة تعرضت لأضرار بالغة في حي الطور" الذي شهد أعنف المواجهات بين قوات الأمن وأعضاء الجماعة السلفية. وكان أسوأ ما أسفرت عنه الحملة الأمنية بالنسبة الى الحكومة هو أن "أبو سياف" بات بطلاً في نظر السواد الأعظم من سكان المدينة، ولم تتأثر صورته لديهم من الاعلام الرسمي الذي وصفه بأنه "مجرم يطلق النار على الشرطة، وعلى سكن الطالبات الجامعيات"، وهو ما أقرّ به رئيس الوزراء الأردني علي أبو الراغب ل"الحياة" أواخر الشهر الماضي عندما قال ان السلطات سارعت الى تنفيذ حملتها في معان، بعدما بات "ابو سياف" زعيماً يصرح للفضائيات، وتحوّل الى "رامبو جديد". وينتمي أبو سياف الى عشيرة في "معان الحجازية"، ولم يكن معروفاً قبل الأحداث الأخيرة، وهو كان جندياً في الجيش الأردني في الثمانينات، قبل أن يعمل موظفاً في وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية التي طرد منها عام 1995، ثم اعتقل مراراً بعد ذلك الى أن حاولت الشرطة توقيفه في 29 تشرين الأول أكتوبر الماضي بعد يوم من اغتيال الديبلوماسي الأميركي في عمان لورنس فولي على يد مجهول. ويقول أحد الشبان الملتحين في المدينة ان "ابو سياف ليس مجرماً ولا ارهابياً. هو ببساطة انسان عادي يعيش مع زوجته المقعدة ... والحكومة افتعلت الصراع معه وجماعته، لأنه نظم تظاهرة تضامنية مع شهداء مذبحة مخيم جنين" التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية في نيسان الماضي. ويشير الى أن الأهالي "باتوا على قناعة أكيدة بأن الحكومة تريده حياً أو ميتاً، بسبب معلومات لديها بأنه يقوم بتهريب اسلحة الى أبطال الانتفاضة الفلسطينية". "تورا بورا" وفيما تؤكد الحكومة أنها "تلقت شكاوى من تيار الاسلام السياسي ضدّ ابو سياف بسبب نهجه وجماعته في تكفير المجتمع والدولة"، يرى مثقفون في المدينة أنه "نتاج ظاهرة أصولية باتت أكثر وضوحاً في معان بعد الانتفاضة والحرب الأميركية على أفغانستان، كما أنها اصبحت اشد احباطاً بسبب عجز النظامين العربي والاسلامي عن الوقوف بفاعلية مع العراق وفلسطين". وإلى التقاليد العشائرية الراسخة في معان، تسيطر ملامح التدين بقوة على مشهد الحياة العامة، فمساجدها شديدة الاكتظاظ، ومعظم شبانها ملتحون ويرتدون زيّاً قديماً يمثل جزءاً من تراث الجزيرة العربية، فيما يحرص بعضهم على محاكاة ملابس الجماعات الاسلامية في أفغانستان، حتى أن صحافياً أجنبياً وصف معان بأنها "قندهار الأردنية" وهو الأمر الذي استحسنه السكان، وباتوا يطلقون على حي الطور في المدينة "تورا بورا". ويسود اعتقاد بين سكان المدينة ونخبها السياسية والاجتماعية بأن "الحكومة تريد ان تظهر لواشنطن كفاية نادرة في محاربة الأصولية والارهاب الديني من خلال مطاردة الجماعة السلفية في معان، سعياً وراء المزيد من المساعدات الاقتصادية". ويلاحظ استاذ جامعي أن "الدولة التي تحارب الجماعة السلفية هي نفسها التي سمحت للمئات من شبان معان بالالتحاق بتنظيم الافغان العرب، عندما كانت الولاياتالمتحدة تشجّع على محاربة الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يحتلّ افغانستان في الثمانينات" من القرن الماضي. ويلفت الى أن "ملف الأحداث في معان سيبقى مفتوحاً مدة طويلة، وسيكون مرشحاً للمزيد من التعقيد، ما لم تبدأ الدولة الأردنية سريعاً في احتواء أزمة هذه المدينة الصحراوية ثقافياً وتنموياً، وتبحث عن حلول سياسية جادة تتوخى التوازن بين الأمن والعدالة فيها".