"هل ستبقون في بغداد؟". من رواية ميسلون هادي "العيون السود"دار الشروق، عمان 2002. ينطلق سؤال الشاب "مثنى" الذي ورث من حرب الخليج الأولى شظية في الرأس، وعاد من حرب الخليج الثانية مشياً من الكويت، وبفضل الحصار تحول من المثقف الى "ابن السوك - السوق" وهو يلوب: "هل أنا روح أم جسد؟ حي أم ميت؟ غائب أم حاضر؟". على شفا ضربة - حرب جديدة يأتي سؤال مثنى يمامة عن البقاء في بغداد. ومثل السؤال، ستأتي الساردة بالجواب الذي يتردد منذ أربع سنوات - على الأقل - الى غد غير بعيد: "لم يعد أحد يسأل مثل هذا السؤال أو يبالي به... أحدثت الضربة أم لم تحدث...". ومن ذلك الأمس الى ذلك الغد يطلع المفتشون الدوليون في الرواية كما في الواقع وهم يضعون أيديهم على الوثائق الموجودة في أدراج الجامعات ومعامل الحليب وحقول الدواجن، مدججين باللاقطات والمراسلات والمسبارات، ومن دير الزعفرانية الى أي مكان لا يوفرون مكتباً ولا سلة مهملات، والتلفزيون يعرضهم وقد "نثروا الأوراق وراحوا يدققون النظر فيها ويصوبون أجهزتهم الدقيقة المحمولة فوق صدورهم نحو الجدران والسقوف والأراضي الجرداء. قال طارق عزيز: إننا إذا تركناهم يفتشون الى ما لا نهاية، فسينتهي الأمر بهم الى تفتيش جيوبنا أيضاً". والى أن يتبيّن الغدُ القريب ما إن كان سيبقى لطارق عزيز قول يقوله، تنطلق من الرواية سخرية الشرطي المتقاعد كاظم البغدادي: "خلصنا من إكيوس إجانا بتلر"، وينطلق سؤاله ليمامة: "شنو القصة مجلس الأمن فاكّ حلكه ويتفرج؟ شنو أميركا صايره إله مال العالم"، فتعلل يمامة الأمر بلعنة النفط، لكن كاظم البغدادي يصدعها: "عمي ما تكوليلي إحنا شقابضين من النفط؟". ويمامة نفسها - الفنانة التشكيلية والمعلمة المستقيلة - تستعيد من أيام القصف الأربعين في الحرب الماضية "المقبلة" حلماً - كابوساً يشظيها في صديقة ستتراءى تبحث عمن يدفن جنينها الذي أسقطته الحرب، وتدفع به الى يمامة الذاهبة الى ساحة الاحتفالات كي توقف الحرب، فتحمل يمامة الجنين وقد غدت أمه، وتسميه باسم حبيبها الذي هاجر الى أميركا "حازم"، فيما القصف أحال الحياة الى "شيء بدائي بكر". ولئن كانت الحرب غيرت ما غيرت من عاشق يمامة الجديد "مثنى"، فهي أيضاً غيرت ما غيرت من عاشقها القديم "حسن الخطاط" الذي رفضت الزواج منه، لأنها ألفته منذ طفولتها الى أكاديمية الفنون، فتزوج، وإن ظل على عشقه لها، وبات يخجل من زمن صعلكته وغرابة تطلعاته. إنه زمن الحرب المترامي عقداً فعقداً. وإنها الحرب المتكثرة، ومنها حرب الحصار التي تجعل بائع السجائر يسأل عما إذا كان كوفي عنان عراقياً، وتطلق صفارة الإنذار الوهمية بين مرة حقيقية ومرة حقيقية، وهم "يلمعونها ويخافون عليها عدم الاستعمال". وحرب الحصار هي التي جعلت من الهاتف، ومن انقطاع الكهرباء وتقنينها، ومن الشموع والفوانيس لازمة عيش ولازمة روائية، وهي التي ترسم طوابير الناس والسيارات من أجل النفط والغاز، وهي التي تطلق سخرية كاظم البغدادي في لازمة أخرى: "هيّة هي اشتراكية؟"، وتكوم أكياس الطحين في دكان تحسين، بفضل بطاقات التموين الوهمية والنقص غير المحسوس في كل حصة يطفف فيها بالميزان. لقد بات الزمن في حرب الحصار زمن الورق - كما بات اسم الدولار - والتوريق. إنه زمن "السوك - السوق" الذي سيمضي فيه مثنى بيمامة الى بورصة العملات الأجنبية في الشوارع التي تبدل أسماءها، وحيث يحمل الرجال أكياس القمامة السود التي ملئت بأكداس الدنانير العراقية، وحيث تفيض التلفزيونات بصور العراقيين وهم يفترشون القصور الرئاسية لحمايتها من الضربة الأميركية، فتقول يمامة: "هل هذا يوم الحساب؟ أوراق مخضرة ووجوه مصفرة وعيون محمرة... وأقوام تترى وقلوب تهوى وأفواه تتلوى". وفي هذا الزمن أيضاً يعود جمال من أسره في الحرب العراقية - الإيرانية، بعد خمسة عشر عاماً من انتظار جنان له، فتراه كهلاً أبيض الشعر والشاربين ومجعد الوجه. قد تبدو رواية "العيون السود" بعد ذلك رواية حرب، لكنها أيضاً رواية "زقاق"، وبالأحرى: رواية زقاق في زمن الحرب، وامتيازها هنا هو مفارقتها لما راج في رواية الحرب العراقية أو العربية بعامة من فجاجة الخطاب، ليكون وكدها في دقائق العيش والنفس والجسد والمكان، وذلك الحس الإنساني الرهيف والنظر النقدي الساخر. ومن ناحية أخرى، تعيد "العيون السود" ما عرفته الرواية العربية من تقاسيم "الزقاق" منذ نجيب محفوظ. ففي زقاقها البغدادي يقوم بيت العنوسة التي يؤوي يمامة وخالتها، حيث تبدأ الرواية بفصل "تابوت باربي"، ونتعرف إلى الخالة المهووسة بالنظافة، التي تلقي بالأشياء في توابيت كرتونية تتوجها علبة كبيرة عليها صورة باربي. وإذا كانت يمامة أزمنت صور ذويها الأحياء والأموات، على جدران غرفة المعيشة، فقد أخذت الصور تختفي، وآخرها صورة الشقيق الأصغر الذي استشهد. فالخالة رفعت الصور كفراشة دخلت الى شرنقتها وأغلقت الباب، بينما بدت يمامة فراشة فردت جناحيها وراحت تحوم حول المصباح الساخن. ومن يوميات يمامة، وبعينيها، ستقدم الرواية الزقاق وبيوته وبشره وصلته بالخارج البغدادي والكوني، وسيجلو ذلك عن خبرة الكتابة وولعها بالتفاصيل، ومن ذلك ما سيدلّل بالأنثوي حين يعدد مفردات الطعام، فيشبه - مثلاً - وجه مثنى المتورد بكيكة خرجت لتوها من الفرن، أو حين يعدد مفردات العطارة، ويشبه ملقط الشعر الوحيد الموضوع على سطح منضدة - هي مثل أرض يباب - ببقايا حيوان افترسته الجوارح منذ وقت طويل، وكذلك حين تصف يمامة نزع أم شكري للشعر بالخيط من على وجه هنوة التي سيكون لبيتها هو الآخر حضوره الحاسم في الزقاق. فها هنا ليمامة - الشخصية المحورية - ذكريات منذ الطفولة مع هنوة زوجة تحسين التي لم تنجب. وفي الزقاق أيضاً البيت المهجور الملاصق لبيت لمياء، الذي سيؤجره مثنى وذووه، لتقوم بينه وبين يمامة العلاقة الملتبسة بحكاياته الملتبسة حول رضاعته من ثلاثين امرأة واحتمال تآخيه مع يمامة، وحول طهيه لها الحساء بالكف المقطوعة، وحول صلته بحياة وسواها، وحول صنعه وذويه التوابيت... وصولاً الى الخطوبة التي ستفصمها يمامة، لترسم في خاتمة الرواية لوحة "أعواد البخور" كما كان في بداية الرواية مع لوحة "روزنامة الأحلام" التي ستعنون الفصل الثاني. وإذا كانت هذه اللوحة ترسم عبدالكريم قاسم بين عبدالحليم حافظ وعبدالسلام النابلسي، فاللوحة الأخيرة سترسم بشر الزقاق - بشر العراق متشابهين مثل أعواد البخور، ولا يظهر منهم بملامحه الحقيقية سوى جمال العائد من الأسر وحازم المهاجر. وها هي يمامة تحدث نفسها عن اللوحة "أبطالها الواقفون لا يهمون أحداً سوى أنفسهم. وعندما ينظر اليهم بعد عشرات السنين أحد ما سيرى فقط عيونهم السود وهي ترنو مسحورة الى عزيز عائداً من الحرب... هذا هو الحدث الذي تحدث به اللوحة رائيها... فإذا ما سمع الرائي وهو ينظر الى اللوحة أصوات أهل الزقاق تهمهم في أذنيه وكأنها مقبلة من كون بعيد... يكون ما رآه قد انسجم مع ما يسمعه... وتطابقت الذبذبتان... واكتملت اللوحة". فهل الرواية إذاً هي اللوحة؟ وماذا لو أن الغد القريب جداً قد صدّق اللوحة، وجعل الرواية تخاطب الحرب المقبلة ببعض أو بمثل أو بأكثر مما تخاطب به الحرب السابقة، في عراق يكويه السؤال عن الخلاص من الديكتاتورية مثلما يكويه السؤال عن الحرب؟