يقدم روائي البيرو الأشهر ماريو بارغاس يوسا في "امتداح الخالة" عنوان الترجمة العربية الصادرة أخيراً عن دار المدى، دمشق، بتوقيع صالح علماني لعبة روائية طريفة تنطلق من مجموعة لوحات، زيتية في معظمها، بغية صوغ عالم أروسي صغير، في حدود مكانية ضيقة ورحبة في آن: تدور أحداث الكتاب ضمن عائلة مكونة من أب وابنه وزوجة الأب، في البيت الجميل حيث يقطنون في ليما عاصمة البيرو، ولا يغادر قارئ الرواية هذا المسرح المحدود البيت بغرفه وحمامه وحديقته إلا عبر المخيلة، وعبر رحلات تشبه المنامات منطلقها الوحيد تلك اللوحات ذات الطابع الإباحي التي يحلو للأب دون ريغوبيرتو التفرج عليها كل مساء مع زوجته دونيا لوكريثيا من أجل تغذية حياتهما الغرامية بالاستيهامات. الشخصيات الرئيسية في هذا العمل تظهر منذ الصفحة الأولى: دونيا لوكريثيا أكملت للتو أربعين سنة من عمرها، وبينما زوجها دون ريغوبيرتو ينهمك "في اغتساله وتنظيفاته المعقدة والبطيئة التي يقوم بها قبل النوم". تعثر دونيا لوكريثيا على رسالة من ابن زوجها ألفونسو يتمنى لها فيها "عيد ميلاد سعيد مرة أخرى"، واعداً إياها ان ينال المرتبة الأولى في المدرسة، إذ "أنت الأطيب والأجمل، وأنا أحلم بك كل ليلة". تتأثر دونيا لوكريثيا برسالة الطفل، معتبرة سطوره وكلماته خير دليل على قبولها في الأسرة من قِبَله ألم يفقد المسكين أمه قبل فترة وجيزة؟، فتنزل درجات السلم مخترقة البيت الغارق في الظلام، متوجهة الى غرفة نوم ألفونسو كي تشكره على الرسالة اللطيفة وتقبله على جبينه. لا يبحث يوسا عن مقدمات للحدث. انه منذ روايته الأولى "المدينة والكلاب" 1962، التي صدرت ترجمتها الانكليزية عام 1966 بعنوان "زمن البطل"، يعتمد على تقنيات سينمائية ومسرحية تتسم بالمباشرة وبالعنف الصادم، لجر القارئ في لحظة خاطفة من عالمه الى عالم الكتاب الذي يقرأ. لم يبدأ يوسا "مديح زوجة الأب" هذا الاقتراح لترجمة العنوان ترجمة أخرى يخدم هدفين: الأول استعمال كلمة "مديح" اللطيفة بدلاً من كلمة "امتداح" القاسية الوقع، والآخر استعمال عبارة "زوجة الأب" بدلاً من "الخالة" ذلك ان هذه الكلمة الأخيرة قد تخلق التباساً عند القارئ العربي المعتاد على استعمال الكلمة "خالة" للتدليل على أخت الأم عموماً، لم يبدأ يوسا روايته هذه إذاً بموت أم ألفونسو، أو بلقاء دون ريغوبيرتو بزوجته الجديدة دونيا لوكريثيا، وإنما ابتدأها مباشرة من "لحظة الحدث" التي تصنع حركة هذه الرواية القصيرة: لحظة لقاء بين زوجة الأب وبين الطفل، زوجة الأب "عارية تحت قميص نومها الحريري الأسود" نسيت أن تلقي على جسدها الروب البيتي، والطفل في بيجامته في السرير يقرأ كتاب مغامرات لألكسندر دوماس، صاحب "الفرسان الثلاثة" و"الكونت دي مونت كريستو". لا نعرف عنوان الكتاب الذي يقرأه ألفونسو، هذا الطفل المغامر تحسبه دونيا لوكريثيا عصفوراً صغيراً بينما تعانقه، شاعرة في "أطراف أصابعها بتدرج عموده الفقري الهش" ص 9، فيما هو ينطلق بتأثير ما قرأ للتو ربما من زمن الطفولة الى الزمن الآتي: يُقبل دونيا لوكريثيا على شفتيها، فتتراجع قليلاً، وتتمنى له ليلة طيبة، ثم تغادر عبر "حميمية السلم المتواطئة" الى مخدعها - حيث ينتظرها زوجها - من جديد. تتحرك شخصيات الرواية الثلاث، في "الأراضي الغامضة للرغبة"، بخفة لا تُحتمل. يوسا الذي اكتشف الدعابة - والأسلوب شبه الكوميدي في الكتابة - مع رواية "كابتن بانتوجا والخدمة الخاصة" عام 1972، ثم مع "الخالة جوليا وكاتب السيناريوات" عام 1977، يدفع بهذه الدُعابة، وبهذا الأسلوب الطريف في النظر الى العالم كما في كتابة العالم، الى تخوم جديدة، حيث نتعرف على هوس دون ريغوبيرتو ب"النظافة الكاملة" الجسدية لا الروحية، هوس يُذكرنا - في طريقة وصفه - بتلك الشخصية البديعة في كتاب الايطالي ريتالو كالفينو، "بالومار" 1983، الصادر قبل كتاب يوسا بسنوات قليلة. يعتمد كالفينو على التفصيل الدقيق، الموغل في الدقة، حين يصف أطوار بطله وهوسه بمراقبة العالم والظواهر المختلفة موج البحر، ورق الخريف، نجوم السماء، بعض الحشرات والزواحف الخ.... يوسا يكرر الشيء ذاته مع دون ريغوبيرتو في فصول تنظيف الأذنين أو تأمل الأنف أو الاغتسال الكامل. لكن مع فارق أكيد: لا يبلغ يوسا ذلك المستوى المتألق في التحليل كما في اقامة المقارنات واقتراح الاستعارات الذي نقع عليه عند كالفينو الخارق الذكاء. المقارنة مع كالفينو ليست عابرة، وذلك لسبب آخر غير الذي ذكرناه: عام 1973، بعد سنة واحدة من صدور "مدن غير مرئية"، نشر كالفينو "قصر المصائر المتقاطعة"، كتاب غريب يمزج بين بوكاشيو وتشوسر، منطلقاً في حكاياته من مجموعة "ورق لعب" ورق كوتشينة قديمة أشبه ما تكون بلوحات زيتية صغيرة، حيث رسوم الملوك والفرسان والأحصنة والملكات، تقدم للشخصيات المجتمعة في نزل وسط غابة، المادة الخام المشهدية لتقديم قصصها. تأليف القصص انطلاقاً من لوحات ورسوم، هذا الشيء الذي فعله كالفينو في "قصر المصائر المتقاطعة" معتمداً على مجموعة "ورق لعب" ثمينة عثر عليها في احدى المكتبات، يكرر يوسا فعله في "امتداح الخالة" معتمداً على 6 لوحات نصفها قديم: لوحة قنداولس ملك ليديا يعرض زوجته على الوزير الأول جيجس 1648، لوحة "ديانا بعد حمامها" 1742، و"لوحة فينوس مع آمور والموسيقى". وكلّها زيتية. وأما النصف الآخر من اللوحات فينتمي الى القرن العشرين: لوحة "رأس I" 1948 لبيكون، لوحة "طريق الى ميندينا 10" 1977 لفرناندو دي زيزلو، ولوحة "البشارة" 1937، لفرا انجيليكو. هذه اللوحة الأخيرة التي شاهدها يوسا في دير سان ماركوس في فلورنسا، والتي اختارها خاتمة لروايته الصغيرة، لا تنتمي الى عصرنا بقدر ما تنتمي الى العصور القديمة. وهو بتثبيته لها في هذا المكان بالذات من كتابه يبدو كأنه يقترح عودة الى البداية من جديد، ربما للانطلاق في رواية مشابهة أخرى. وهذا ما فعله بعد سنوات، عام 1997، في "دفاتر دون ريغوبيرتو". يستعمل دون ريغوبيرتو بصره ليشحن جسمه وروحه بالانفعالات. ان "التلصص" الذي يورثه لألفونسو هو في الأصل من فكرة الكتاب. يعترف يوسا في محاضرات ألقاها عام 1988 في جامعة سيراكوز الأميركية أن جميع رواياته تبدأ من أفكار. انه اعتراف عُرضة للمقارنة مع اعترافات أجمل قدمها ماركيز وكورتاثار مثلاً حول ابتداء الروايات عندهما من "صُوَر"، أو من "منامات"، وهذه "صُوَر" أيضاً!. لكن هذا التشبع بالرسوم لا يملأ دون ريغوبيرتو وحده، وإنما دونيا لوكريثيا أيضاً. ينطلق دون ريغوبيرتو من لوحة جاكوب جورداننس عن زوجة ملك ليديا ليعرض استيهاماته حول المرأة البدينة، وحول علاقة "التلصص" - في أشكاله المتعددة - بالرغبة واحتدامها. وهي رغبة تظهر مشوهة لاحقاً، بفعل لوحة فرانسيس بيكون المخيفة، حيث يُخترق الكتاب بلحظة كابوسية نادرة تتمثل في خطر يُهدد "العين" المبصرة. في المقابل، تؤثر لوحة فرانسيس بوشير "ديانا بعد حمامها" في دونيا لوكريثيا التي اكتشفت للتو أن ألفونسو يتلصص عليها بينما تستحم بحيث تدفعها الى منام شهواني، الى مونولوج داخلي يُذكر بالفصل الختامي من "عوليس" جيمس جويس. ويوسا أحد كبار المعجبين به. وإن كان الفصل المستمد من لوحة تيزيانو فيسيليو مثيراً للحيرة بعض الشيء، على رغم جمالياته، للَبْس في هوية الراوي صاحب المنام، فهذا لَبْسٌ يمكن التخلص منه عبر فصم دون ريغوبيرتو الى شخصين: سيد يستمتع بزوجته، وطفل جنّي، "آمور" كما في اللوحات القديمة، يلقن الزوجة دروس الحب، أو، بالأحرى، يعمل على اعدادها للسيد، من أجل بلوغ اللذة الكاملة، لذة الاثنين معاً. هذه الاقتراحات - الضمنية والمعلنة - من يوسا تجد في الفكاهة قوتها الأساسية. لكن هذه الفكاهة الدعابة تهدد بالمقابل بنسف النص كلّه، وبإسقاطه في هوّة النصوص الإباحية الشعبية، على رغم الاسم اللامع للمؤلف، وعلى رغم "نخبوية" ما في استعمال اللوحات كمادة سردية تجريبية. لقد حاول يوسا دائماً، في دربه الروائي، أن يكتب "رواية شاملة"، هذه العبارة التي وصف بها ليوسا رواية ماركيز في أطروحة دكتوراه قدمها كطالب في جامعة مدريد ثم نشرها عام 1971 وشهرة "مئة عام من العزلة" في أوجها، ثم أعاد استعمالها مجدداً في دراسته حول "مدام بوفاري"، هذه العبارة لا يمكن استخدامها - بأي حال من الأحوال - لدى الاقتراب من "امتداح الخالة". يوسا نفسه اعترف في إحدى المحاضرات أن هذه الرواية لم تبدأ في رأسه هو، وإنما في رأس ناشر اقترح عليه وعلى رسام صديقه أن يؤلفا معاً رواية: يقدم الرسام لوحات يعتمد يوسا عليها في كتابة فصل من القصة، ثم يستخدم الرسام هذا الفصل لتصوير لوحة، لوحة سيستعملها يوسا لكتابة الفصل التالي، وهكذا دواليك، حتى النهاية. ليقول يوسا ان التجربة فشلت ، لكن بقي منها ذلك الاقتراح الثري الجوانب: الانطلاق من لوحة لابداع قصة. لا يجوز بالتالي عقد مقارنات بين هذه الرواية القصيرة وبين أعمال يوسا السابقة. "البيت الأخضر" 1966 مثلاً، أو "حرب نهاية العالم" 1981، أو "محادثة في الكاتدرائية" 1969. ذلك أن أي مقارنة من هذا النوع قد تُحول "امتداح الخالة" الى عمل هامشي في متن أعمال يوسا، والى تجربة عابرة، لحظة استراحة وجيزة لا أكثر. لنتذكر انه كتبها بعد فترة انهماك سياسي: ترشح لرئاسة بلاده، ومُني بالهزيمة. ما يغيب عن "امتداح الخالة" هو الهوس بالطعام. جويس مزج الرغبة الجنسية بالطعام، في مطالع "عوليس" حيث ذلك الوصف المذهل للأطعمة، كما في نهاياتها. انه موجود لكن ليس بصورة فاعلة. اختار يوسا بدلاً منه التركيز مباشرة على الجسم البشري. اغتسالات دون ريغوبيرتو التي تجمع الطرافة الى القذارة. ما يغيب عن "امتداح الخالة" أيضاً هو "الخارج". لا نرى "سماء ليما الموحلة" إلا في المشهد الختامي، ويبدو البيت حيث تدور الأحداث معلقاً دوماً في فراغ المخيلة. ذلك ينتج أيضاً عن طبيعة هذا النص البسيط، نص يشبه قصة طويلة، أو مسرحية معدودة المشاهد. حين نشر روايته الأولى "المدينة والكلاب" 1962، كان يوسا في السادسة والعشرين من عمره. في تلك الرواية التي أطلقت شهرته حقق الكاتب الشاب طموحاً عالياً: أن يكتب البيرو خلال فترة شبابه دراسته في المدرسة العسكرية، بكل طبقاتها وتناقضاتها، في كتاب. انه طموح وانجاز كرره مرة أخرى في "البيت الأخضر" حيث اكتشف بيرو أخرى هي بيرو الأدغال والهنود. بعد هذه الانجازات كان عليه أن يحاول شيئاً مختلفاً. انظر مثلاً "من قتل بالومينو موليرو؟"، أو "الحكواتي"، التي تذكرنا بحياة ر.ل. ستيفنسون في سنواته الأخيرة بين سكان جزيرة ساموا. يوسا كاتب مملوء بالطاقة. لكنها طاقة تذهب في كل الاتجاهات. ليست "امتداح الخالة" رواية ممتازة، لكنها نتاج كاتب مُصرّ على محاولة انجاز ما هو مختلف وجديد، كاتب مستعد للمخاطرة في سبيل كتابة ما يريد كتابته. ذلك يعيدنا الى الطفل ألفونسو: هل أقدم على المخاطرة لأنه فعلاً أحبّ خالته، أم أنه فعل ذلك - في خطة شيطانية - من أجل تدمير علاقتها بأبيه وطردها أخيراً من البيت؟ يُترك السؤال معلقاً في الصفحات الأخيرة مع ميل واضح الى اعتبار الطفل "جميلاً وشريراً كالشيطان" عبارة من استورياس في "السيد الرئيس"، فهذا هو على الأقل اعتقاد الخادمة الشخصية الرابعة في الكتاب، والتي تعمل - دون وعي منها - كوسيط في غراميات الشخصيات الثلاث الأخرى. لكن السؤال الأهم لا يأتي في مصلحة الرواية. كتب يوسا في دراسة حول بورخيس ان الأساسي في العمل الفني ليس في كونه واقعياً أم خيالياً، وإنما في قدرته - أو عجزه - عن الإقناع بحقيقته الفنية الخاصة. سؤالنا هو: الى أي حد تُقنعنا رواية يوسا هذه بحقيقتها الفنية الخاصة؟