طابع عام يكاد يميز "مقاطع" الاعلان التي تعرضها شاشاتنا الصغيرة، هو عدم ادراكها لما تقوم عليه الآلية الاعلانية. لست أعني هنا عيوب التصوير أو فقر السيناريوات أو حدود التمثيل، وانما أقصد الفلسفة الفقيرة الثاوية خلف الإشهارات والاعلانات التي تقدمها شاشاتنا. ذلك ان هذه الاعلانات غالباً ما تكون "دروسا" في الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء، تخاطب "عقول" المشاهدين وتتوجه الى مداركهم، فتحاول اقناعهم بقيمة المنتوج وتفوقه على نظائره، وبخس ثمنه وجودة صنعه. لذا فغالباًَ ما يشد الاعلان بيدك وبصرك وبصيرتك ليدخلك المخابر، ويجعلك "ترى" بأم عينيك خصائص المنتوج. وهو يقيم لك البراهين تلو الأخرى كي يقنعك بصدق ما يقول وحقيقة ما تشاهد. الآلية الأساسية التي يعتمدها الاعلان هنا هي المباشرة والتلقائية. فهو لا يأبه باللاشعور المتلقي، وانما يخاطبه من حيث هو كائن عاقل في "أتم وعيه". انه لايتوجه الى مخاطبته "بالغمزة" وانما يواجهه "بالدبزة" كما يقول المثل عندنا. ثم ان هذه الآلية تؤكد على "محتوى" الاعلان صوتاً وكتابة. من هنا اهتمامها الكبير بنص الاعلانات، وسعيها الدائم الى ان تكون صوتاً مسموعاً مقفى مغنى موزوناً قابلاً للترداد السهل. وهي تصير على "منطقية" النص الاعلاني، وتولي كبير اهتمام لجانبه الحجاجي ناسية ان الاعلان ليس اثباتا واستدلالاً وبرهاناً وانه يضع نفسه في ما وراء الصواب والخطأ. فهو لا يخاطب العقول، وانما يتوجه الى الاحساسات. لا يقصد الوعي، وانما يومئ الى اللاوعي. لا يأتيك مباشرة، وانما ينسل اليك بعد لف ودوران. لذا فهو اشارة وايماء وايحاء وعلاقة وصورة، وليس مضموناً ومحتوى. ذلك ان الاعلان لن يخبر عن واقع بل يخلق الواقع الذي ينبئ عنه. فالآلية المتحكمة فيه تمزج بين الحلم والواقع، بين النبوءة والتنبؤ. ان الاعلان مرآة. لكنها مرآة غريبة، مرآة فعالة. فهي اذ تعكس عنا صورة تجعلنا نحاول التشبه بالصورة التي تعكس عنا. الاعلان مرآة يرى فيها المتلقي ذاته وما يرغب فيه، فيحاول ان يتطابق مع الصورة التي تعكس له. لذا فهو، بالأولى، لعبة مرآتية اكثر منه مرآة. انه فن جعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد الدائم الملح على انها كذلك. من هنا آلية التكرار التي يلجأ اليها الاعلان. انها آلية ترسيخ الصور وشحن الذاكرة وتعويد الرؤية ووشم الجسم وترويض الجسد. ما أبعدنا اذاً عن جو الاقناع والحجاج. اذ ان المخاطب هنا ليس المتلقي من حيث هو قدرة على المحاكمة، وانما من حيث هو قوة على حفظ الصور وتشرّب الإيماءات.