يدعونا جون بودريار، لكي نفهم آليات المجتمع المعاصر الذي يتحكم فيه الاشهار الاعلام والموضة واستطلاع الآراء، ان نرفع عن تلك الفعاليات كل طابع "واقعي"، وننظر الى الاستثمار في ما وراء الصواب والخطأ، والى الموضة فيما وراء الجمال والقبح، والى استطلاع الآراء في ما وراء الصدق والكذب، وبصفة أهم، الى الاشياء في وظيفتها كدلائل، في ما وراء النفع والضرر. ليس الاشهار ولا استطلاع الرأي ولا الموضة اخباراً او استدلالاً أو إقناعاً أو برهنة، صحيح ان كل هاته الفعاليات هي اقرب الى المرآة التي تعكس الاذواق والمطامح والرغبات والميول، لكنها مرايا فعالة، اذ تعكس عن المجتمع صورة تدفعه الى ان يستنسخها فيحاول ان يتشبه بالصور التي تعكس عنه. ان المنظور المتحكم في هذه الكليات منطق غريب يمزج بين الحلم والواقع، بين النبوة والتنبؤ. فهي لا تخبر عن وقائع، بل تخلق الواقع الذي تتنبأ به فتنبئ عنه. فحتى ان سلمنا بأن هذه الفعاليات، وهي من قبيل الاخبار، فينبغي ان نسلم كذلك بأن هذا الاخبار ينتج ما يخبر عنه، فالاشهار مثلاً مرآة يرى فيها المجتمع ذاته وما يرغبه فيحاول ان يتطابق مع الصورة التي تعكسها له. والدور نفسه يقوم به استطلاع الرأي. انه يتنبأ بالاحداث الاجتماعية والسياسية فيحل محلها وينتهي بأن يعكسها. في لعبة المرايا هذه من الصعب الحديث عن علة ومعلول، أو قل انها لعبة دائرية انعكاسية يغدو فيها المعلول علة. على هذا النحو وحده يمكن ان نفهم دور الاشهار والموضة واستطلاع الآراء في مجتمعاتنا المعاصرة. فكل هذه الفعاليات، التي لم يعد بإمكان المجتمع المعاصر ان يحيا من دونها، تصنع واقعها الذي "تخبر عنه" وتتطلع اليه عندما تستطلعه. ليس المنطق المتحكم هنا كما قلنا هو منطق البرهان والاستدلال، ولكن ليس هو كذلك "المنطق" الايديولوجي. اذ لا يتعلق الامر بقلب واقع مفترض او تشويه افكار او خلق اوهام، وانما بممارسة فن جديد وصناعة مستحدثة تخص المجتمعات المعاصرة وتميزها. هذا الفن هو فن جعل الاشياء حقيقة بمجرد التأكيد على انها كذلك، انه الفن الذي يجعل الاخبار متقدماً عما يخبر عنه، ويجعل "الواقع" مفعول الخبر، ها هنا لا تنفعنا في ضبط الآلية المتحكمة مفاهيم الموضوعية والذاتية، ولا الصواب والخطأ، ولا حتى الوهم واللاوهم، فنحن هنا لسنا امام موضوعات ولا أشياء وانما امام دلائل وعلامات يتحكم فيها لا منطق العلوم الايديولوجيا، وانما "منطق" السيميولوجيا.