الانتصار المزدوج الذي حققه فيلم "لما حكيت مريم" في الدورة الاخيرة لأيام قرطاج السينمائية، لم يكن كما نعرف انتصاره الأول خلال الشهور الاخيرة. فإذا كان هذا الفيلم اللبناني البسيط والعميق والجميل، في آن معاً، فاز في تونس بجائزة العمل الأول، وفازت ممثلته الرئيسة برناديت حديب بجائزة أفضل ممثلة، فإن جولة الفيلم على الكثير من المهرجانات، منذ عرضه "الخارجي" الأول في مهرجان السينما العربية في معهد العالم العربي بباريس، وصولاً الى قرطاج، أتاحت له تحقيق انتصارات متتالية، ومنها الجائزة الكبرى في الاسكندرية، وفوز برناديت حديب مريم مرة اخرى في الاسكندرية نفسها. عناصر عدة اشتغلت لمصلحة هذا الفيلم الذي كان الروائي الطويل الأول لمخرجه أسد فولادكار. ومن هذه العناصر، كونه الفيلم الوحيد الذي طلع من لبنان في الآونة الاخيرة، وغرابة الموضوع، وتعقيدية التعبير السينمائي مع بساطته في الوقت نفسه، والاجواء التي خلقها داخل الفيلم، ثم حول الفيلم بعد ذلك. ولعلنا لا نبتعد كثيراً عن هذه الدائرة اذا أشرنا الى ان اختيار برناديت حديب لدور "مريم" كان واحدة من خبطات الفيلم الموفقة، لأن برناديت حملت جزءاً كبيراً من نكهة الفيلم فوق كتفيها ونجحت. ومع هذا فإن برناديت حديب التي تكاد الآن تصبح نجمة، لم تكن معروفة على نطاق النجومية قبل "لما حكيت مريم". كما انها لا تنوي ان تكون معروفة على هذا النطاق نفسه بعد نجاح الفيلم. تقول هي بنفسها انها ممثلة مسرح حدث لها بالمصادفة ان اختيرت من أجل "مريم" ولن يغير ذلك شيئاً كثيراً من حياتها. ومع هذا، في زيارة راهنة لمصر وفي لقاءات مع سينمائيين مصريين شاهدوا "لما حكيت مريم" أو سمعوا به من مصادر ثقة، وجدنا اسمها يتردد مرشحة للتمثيل في غير فيلم مزمع انتاجه. ومعظم الذين رددوا اسمها أسرّوا الينا بأنهم لم يفاتحوها في الأمر ولا يعرفونها أو تعرفهم ايضاً. كان يكفي هذا الفيلم لكي يقلب معادلات ويفتح آفاقاً. ولكننا اذ نتحدث هنا عما يرافق الحديث عن هذه الصبية التي أسرت المتفرجين، وأهل المهنة، بحضورها القوي واشعاعها في دور مريم، فإنما نسعى من خلال ذلك الى الوصول الى منطقة اخرى تبدو بالنسبة الينا أكثر أهمية. منطقة تتعلق بما يطرحه الفيلم من حلول لبعض اكثر المشكلات التي تعترض سينمائيي اليوم الشبان، صعوبة. وهذا الأمر سمعنا المخرج اسد فولادكار يعبر عنه، بكلمات بسيطة تبدو بالنسبة اليه أقرب الى البديهة، في غير مقابلة تلفزيونية وصحافية، ولا سيما في مصر، حيث - وفي شكل فيه الكثير من الاستثنائية لمن يعرف مدى تقبل نوع معين من التلفزة المصرية لفكرة استضافة مبدعين عرب - استقبل بإسهاب ونوقش فيلمه وسئل عن احواله واحوال السينما اللبنانية. فكان ان ردد هو وكرر اكثر من مرة ما سبق له ان أوضحه مراراً من ان فيلمه، هذا، المثير للضجيج والاعجاب لم ينفق عليه سوى 15 ألف دولار، هي كل موازنته. ولأن الموازنة هي على هذا الحجم المذهل، لم يصور فيلمه - اصلاً - للسينما، بل بأدوات تلفزيونية. واضطر الى اختيار ممثلين هواة بالكاد تقاضى أحد منهم أجراً. ومن يعرف اسد فولادكار، ويعرف ظروف تحقيقه لفيلمه، يعرف انه لا يقول سوى الحقيقة. ففي البداية كان مشروع الرجل مشروعاً عادياً ويحتاج الى موازنة لا بأس بها... ووُعد الرجل وانتظر طويلاً. ومرّت الشهور وربما السنون والوعود لا تتحقق. وهكذا، مع مرور الوقت صارت قضية انجاز "لما حكيت مريم" هاجساً لديه، وتعويذة يتعين اخراجها. في النهاية حين يئس، استدان الدولارات القليلة التي تكفيه لصنع فيلم ينتمي الى حيز "الحد الأدنى" وحقق الفيلم. حققه لا لينجح، ولا ليقدم من خلاله درساً. حققه فقط لكي يتخلص اخيراً منه كهاجس وخصوصاً كعقبة تحول دون الانطلاق الى ما هو أبعد... وهكذا حدث للفيلم الذي شاء مخرجه ان يبعده عنه بتحقيقه... بالتخلص منه، ان تحول من عبء الى درس. من هاجس الى فرح. ومن مشروع الى أفق. لقد نجح الفيلم... وقدم درساً... في السينما وفي الشجاعة. حسناً. فلنقارن اذاً، بين "لما حكيت مريم" وبين العشرات من المشاريع التي لا يتوقف سينمائيون عن حملها والحلم بها، منذ سنوات طويلة من دون ان تتحقق، أو من دون ان يعثروا حتى على أضأل أمل يعد بأنها ستتحقق يوماً. وهذه المشاريع تتراوح بين أعمال ضخمة يحملها مخضرمون يحتاجون لتنفيذها الى عشرات ملايين الدولارات، وبين اعمال "اصغر" قد يكتفي اصحابها بملايين عدة فقط... وبكل تواضع. وهؤلاء وأولئك يدورون من مهرجان الى آخر، ومن مناسبة الى اخرى، ومن دولة الى دولة ومؤسسة الى مؤسسة ساعين وراء سراب قد لا يعثرون عليه ابداً. ما العمل؟ لسنا ندري ما اذا كان نموذج "لما حكيت مريم" يصلح كدرس هنا، في الكيفية التي يمكن بها اخيراً ان يحقق السينمائيون أفلامهم، من دون أوهام ومن دون تضخيم. لسنا ندري ما اذا كان يمكن التجربة ان تتكرر. بل لسنا ندري ما اذا كان اسد فولادكار نفسه سيقدر على تحقيق تجربة مشابهة، عما قريب أو عما بعيد. لكننا نعرف ان تجربة "لما حكيت مريم" نجحت وأثمرت، وربما تمكن صاحبها من تحقيق ما هو أكبر... على رغم أننا نخشى ان يتبدى "ما هو أكبر"، أقل أهمية وشفافية من ذلك الفيلم العفوي الذي يشاهده المرء ويحبه بكل شغاف قلبه من دون ان يسأل عن كلفته الفعلية أو عن ظروف إنتاجه. ندري فقط، ان فيلم "لما حكيت مريم" كلف 15 ألف دولار. وأنه فيلم جيد حقق بالافئدة. وندري فقط، ان ثمة مشاريع لسينمائيين تنتظر، مجموع موازناتها معاً لا يقل عن مليار دولار... وهذا وذاك الآن في كفتي ميزان. وفي انتظار ان ترجح كفة على كفة خلال المرحلة المقبلة يواصل "لما حكيت مريم" جولته بين المهرجانات والجوائز. وكذلك، في انتظار المقبل ستبدأ عروض الفيلم التجارية عما قريب، في بيروت وغيرها، ويقيناً ان "لما حكيت مريم" سيتحوّل ساعتها من فيلم ناجح الى فيلم رابح. وعندها فقط يبدأ التفكير الجدّي بمستقبل حقيقي لسينما الفقراء. ابراهيم العريس