لم تجد المبادرات التصالحية التي أطلقها النظام العراقي أخيراً آذاناً صاغية، بل انها جوبهت، سواء من العراقيين أو من المراقبين المحايدين، بردود أفعال تراوحت بين اللامبالاة والشك والرفض، وأحياناً بالازدراء، كونها لا تعدو أن تكون محاولة أخيرة ويائسة لاستجداء حبل النجاة من قبل نظام آخذ بالغرق سريعاً. ولربما يخيل للمرء أن مثل هذه الردود السلبية تجاه مبادرات "ايجابية" تنطوي على استعجال وتعال واستهانة بخطوات يتطلب التمعن الدقىق بها بتجرد وطني وضمير اخلاقي يضع مصلحة العراق فوق كل اعتبار آخر. غير أن الرد الوحيد على مثل هذا النقد يكمن في أن هناك مشكلة حقيقية تواجه أي شخص يحاول أن يستخلص رأياً ايجابياً في تلكم المبادرات، وهي أنها تأتي بالذات من النظام العراقي الذي يتمتع بتاريخ طويل من الاستهانة والاحتقار ليس للمعارضة فحسب، بل لكل رأي مخالف، إضافة إلى انعدام الصدقية فيه ليس فقط من قبل معارضيه، بل من مجموع المعنيين والمراقبين لمسلكه في التعامل الداخلي والخارجي، وهو استخلاص يجعل من الصعب اتخاذ موقف ايجابي مرحب تجاه هذه المبادرات حتى لو توافرت الرغبة والإرادة، ذلك لأن الأمر يتعدى النيات الطيبة أو ولوج تجربة الاختبار أو منح فرصة الشك لنظام تجاوز في ممارساته كل الحدود الممكنة. ومع ذلك، فإن من المجدي محاولة سبر غور الخطوات الشحيحية التي اتخذها النظام منذ الاستفتاء الرئاسي الأخير والتي صورت وكأنها توجه انفتاحي قد يمهد الطريق نحو اصلاح سياسي ديموقراطي في بنية النظام وممارساته التسلطية، تمثلت هذه الخطوات، أو المكرمات، كما هي في قاموس النظام وأجهزة إعلامه، بالإعلان عن اطلاق سراح السجناء وبينهم معتقلون سياسيون والدعوة إلى رفع بعض القيود المالية على سفر العراقيين إلى الخارج وتخفيف اللهجة العدائية السائدة تجاه المعارضين السياسيين في المنافي والدعوات المغرورة لهم بالعودة. هذه المكرمات أو الهبات، وما قد يأتي مثلها لاحقاً، لا تبدو ذات صلة بأية نية للانفتاح، كما أنها خطوات مبتسرة لا يمكن أن تلبي حتى الجزء اليسير من المتطلبات الأساسية من أجل إقامة نظام ديموقراطي حقيقي ونزيه والذي أصبح بعد كل المآسي التي جرت على العراق والأخطار المحدقة به قضية مستقبل ومصير. كان المطلوب ولا يزال اجراء عملية اصلاح شامل وجذري وتطوير حقيقي تنتهي النهاية الطبيعية وهي رفع الوصاية المفروضة على الشعب وتسليمه قيادة زمام نفسه في عملية انتقال حقيقي للسلطة، تتوج بأن يتبوأ ممثلوه الآتون من خلال صناديق الاقتراع قيادة الدولة والمجتمع كي يأخذوا بأيديهم إعادة بناء ما دمرته سنوات الطغيان والحروب والحصارات، وأن يمنعوا عن البلد الكارثة التي تحوم حوله. لكن السؤال يبقى على كل لسان: هل أن النظام العراقي الحالي قابل للإصلاح والتطوير؟ هنا نحتاج إلى عودة قصيرة للتاريخ. لقد أحكم نظام حكم حزب البعث بعد مجيئه إلى الحكم عبر انقلاب عسكري عام 1968 قبضته على السلطة من خلال هيمنته على أجهزة الدولة كافة وعمله على عزل كل القوى السياسية المنافسة وتصفيتها، ووأد مؤسسات المجتمع المدني عبر اصراره على "تبعيث" كل فئات المجتمع ومؤسساته تحت شعار إقامة نظام الحزب القائد، كما انتزع حق المبادرة والقرار من الشعب ووضعه في يد قيادة الحزب متمثلاً بمجلس قيادة الثورة ورئيسه الذي يمتلك سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية استثنائية، خالقاً بذلك نظاماً سلطوياً فريداً في طرازه، حتى أن بعض الدارسين وسموه بأنه نوع من أنواع الاستعمار الداخلي مقارنة بالاستعمار الخارجي. هذا النوع من الأنظمة، كما دلت التجربة التاريخية، قد يلجأ إلى اضفاء بضع لمسات التجميل على ملامحه مثل اجراء انتخابات برلمانية صورية واستفتاءات رئاسية محبكة الاخراج، لكنها تبقى ممارسات تندرج في إطار الغش والتدليس الديموقراطي ولا تحمل في طياتها وعوداً بالتغيير أو بذوراً لتحقيق أي نواع من أنوع الإصلاح الحقيقي بداخله. غير أن الأمر لا يعود فقط للألعاب البهلوانية التي يمارسها النظام العراقي تحت مسميات الديموقراطية أو إلى خذلانه المستمر لأي حليف يمكن أن يصطف معه في ساعات الضيق والشدة الوطنية وانقلابه عليه بعد ذلك، كما حدث مرات ومرات خلال العقود الثلاثة الأخيرة. كما أنه لا يعود إلى اصراره على البصق في كل يد يمكن أن تمتد إليه بالعون أو قطع كل لسان يمكن أن ينشد له النصيحة، بل ان الأمر يرتبط بتلك الهالة التي يصطنعها النظام حول نفسه بادعائه رؤى رسالية تغلق كل باب يمكن أن يفتح بوجه أي امكان للحوار وتبادل الرأي الحر على أرضية المصلحة الوطنية المشتركة. لا أحد لديه أوهام بطبيعة الحال من أن هذه المبادرات الخجولة التي قدمت والتي ستقدم بعدئذ تأتي في لحظة ضعف قاتلة للنظام نتيجة الاصرار الأميركي على تغييره بالقوة المسلحة، لكنها ايضاً تأتي تتويجاً لأزمة الدولة الوطنية والتي دفعها النظام الحالي باحتكاره للسلطة وبمغامراته الخارجية الى دركها الأسفل والتي يتطلب انتشالها منه جهوداً هي بمنزلة المعجزات والخوارق. وإذا كان الأمر يتطلب تفاعلاً ايجابياً بسبب الظروف الخطيرة المحيطة بالعراق فإن السؤال الذي يواجه كل عراقي هو: ما المطلوب منه في هذا المنعطف التاريخي لكي يحاول انقاذ بلده مما هو مقبل عليه من احتمالات معظمها كارثي؟ هناك في هذا المجال وقائع بعضها مر لكن لا مفر من تناولها من قبل كل العراقيين بحس عال من المسؤولية الوطنية والالتزام الأخلاقي، بداية بهدف ان تظل المبادرة للتغير بأيد عراقية وبعد ذلك بهدف ألا يأتي يوم يبكي فيه العراقيون جميعاً على اللبن المسكوب. أول هذه الوقائع هو ان هناك مخططاً خارجياً لتغير النظام تسعى الولاياتالمتحدة لتنفيذه بالقوة العسكرية والغزو، وسيؤدي تنفيذه الى هزة وطنية عنيفة ليس بمقدور أي متنبئ استبصار نتائجها على العراق ومستقبله. ما يرتبط بهذه الحقيقة هو وجود قناعة عامة ان لا أحد بامكانه ايقاف هذا المسعى كونه أصبح هدفاً استراتيجياً اميركياً قد يتأخر تنفيذه، وقد تتغير وسائل تحقيقه الا انه يبدو محتماً. ما يرتبط بهذه الحقيقة ايضاً هو وجود لحظة تماثل بين الرغبة الأميركية والرغبة العارمة لدى العراقيين في التغيير تزامنت في ظرف زمني نادر على رغم عدم تطابقهما في الاهداف وتنافرهما في المصالح. ثاني هذه الوقائع هو ان النظام وحده يتحمل مسؤولية عدم الاستجابة للمطالب العاجلة بالاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الشامل والذي انتفت أي مبررات لتأجيله، اضافة الى مسؤوليته في دفع البلاد الى المجهول لو استمر في رفض الاصلاح كونه سيفسح الفرصة للمشروع الاميركي كي يأخذ نصيبه من التنفيذ. هذه الحقيقة تتطلب من النظام ان يشرع بتقديم التنازلات الى شعبه قبل أن يضطر مرغماً على تقديمها تحت وابل الضغوط والتهديدات الخارجية مثلما يقدمها الآن تحت عصا مجلس الأمن الدولي وانذارات الحرب الأميركية. ما هو مطلوب هو أن يقوم النظام بتقديم مبادرات حقيقية يتوجه بها الى الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير وليس مكرمات هدفها اهانته وإذلاله، كما ان عليه أن يحذر من تقديم عروض بائسة، أبطالها اضافة اليه وجوه ساقطة ترتضي ان تلعب دور الكومبارس في تمثيلية جديدة مثيرة للاشمئزاز. ثالث هذه الوقائع هو ما يتعلق بالمعارضة العراقية التي تستهل اللا السلبية على تقديم مبادرات فاعلة وايجابية هدفها دفع النظام إلى تقديم التنازلات الضرورية لحل وطني يحقق التغيير اللازم بأياديعراقية. لا أحد بامكانه ان يتجاهل طبيعة النظام وشراسته تجاه كل قوى المعارضة الحقيقية ورفضه التام حتى الاقرار بوجودها، ولا أحد يدعو هذه القوى للصفح عن النظام أو التصالح معه، ولكن هذا لا يعفيها من مسؤوليتها التاريخية في البحث عن البدائل الخلاقة كي تجعل النظام أمام طريق لا ثاني له، هو اما ان يقدم على دفع الثمن المطلوب للاصلاح والتغيير أو ان يتحمل وحده مسؤولية الكارثة القادمة. والوقائع الثلاث تؤكد ان هناك ثمة مخرج واحد من الأزمة الطاحنة التي تضرب بالعراق وامكانات تطورها الى مأساة وطنية كبرى، لكنه مخرج يتحكم فيه النظام وحده وهو القادر دون غيره على تحقيق الانفراجة فيه لو توافرت له الارادة والحكمة، ولو اقتنع بأن أي أفق سياسي أمامه معدوم للاستمرار بالشكل الذي هو عليه في عالم متغير لن يوافق أبداً بغض النظر عن نتائج المواجهة مع الولاياتالمتحدة، ومهما كانت الأسباب لاستمراره من دون اصلاح واعادة تأهيل. ثم ان هذه لحظة فريدة في عمر النظام لن تتوافر له أبداً حين تقرع طبول الحرب الاميركية، وعليه استغلالها لا لكي يقدم خدمة حقيقية مطلوبة للوطن وللشعب قد يستحق عليها قدراً من العفو والغفران، بل لكي ينقذ نفسه وأنصاره من مصير مظلم محيق بهم لو فرط بها بدواعي الغرور والمكابرة. هناك أمام النظام تجربتان لا تزالان حيتان في الأذهان عليه أن يختار احداهما بعدما اضطر الى الكشف عن ضعفه وبدأ سلسلة تنازلاته، فإما تجربة جنوب افريقيا والنقل السلمي للسلطة الذي أقدمت عليه الأقلية البيضاء بتنازلها الطوعي للغالبية الوطنية، أو تجربة شاه ايران وسقوطه الذليل في أكبر وثبة شعبية شهدها العالم في قرنه الماضي. * كاتب عراقي.