«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نهاية مغايرة لرواية حول نظام عالمي جديد من أصحاب القلوب الكسيرة
نشر في الحياة يوم 03 - 11 - 2002

جلس العازفان متربعين في طرف القاعة المفروشة بالسجاد على منصة مخفوضة وكأنهما صورة في مخطوط من عصر أباطرة الهند القدامى. كانت النافذة العالية مفتوحة لمساء ليلة خريفية معتدلة، ولعل العابرين في الشارع اللندني سمعوا أنغام السيتار العذبة، يدفعها إيقاع الطبلة الرنان، تحمل أشواق قلوبنا جميعاً: انكليز مهذبون يرتدون البذلة الرسمية، وشباب يرتدون الجينز، واثنين أو ثلاثة من رجال الكنيسة، وسيدات أوروبيات يلبسن الساري الهندي وهنديات يلبسن التايير الأفرنجي. كانت المناسبة الاحتفال بصدور كتاب جديد، والكتاب المحتفى به، White Mughals، لمؤلفه وليم دالريمبل يروي قصة حب، قصة الهند قبل تثبيت أركان الإمبراطورية البريطانية، عندما كان الانكليز يختلطون بالهنود فيقع بينهم ما يسمى اليوم بالتبادل الثقافي - إلى حين. إذ تضخمت المصالح التجارية وهيمنت المصالح السياسية، فبدأ الفصل العنصري والجمود والحديث عن الحضارات "الممتازة" وتفوقها. في ليتون هاوس Leighton House بيت لورد ليتون الذي أصبح متحفاً خاصاً في حي كينسينغتون ينبثق الماء من نافورة في قاعة مبلطة بالفسيفساء، ويرصع البلاط التركي والفارسي الجدران في انسجام كامل مع لوحات فنية من مدرسة آلما تاديما وبيرن جونز، والكل مكونات لبيت بريطاني فريد الجمال.
ذلك المساء، بعد عودتنا، جلسنا أمام الأخبار وطلع علينا خطاب للرئيس جورج دبليو بوش. هتفت أمي "كل تلك المدن التي ترتبط في خيالنا بالشعر، بالفن، واليوم..." لا أعلق على جملتها المبتورة، أمي في الخامسة والسبعين من عمرها وأوشك الليل أن ينتصف. إلا أن أسماء المدن تدور في ذهني: بغداد والبصرة والكوفة، كابول وقندهار، مزار الشريف وجلال أباد، بيت لحم والناصرة والقدس.
احساس يتملكنا ويصيبنا برائحة الخطر في كل لحظة. أبنائي نصف إنكليز. هل أشجعهم أن ينسوا النصف الآخر؟ نصفي أنا؟ أن ينسوا اللغة العربية؟ ينسوا الأسرة في القاهرة والإسكندرية؟ ينسوا مصر والنيل وفيروز وعم أحمد البقال على رأس شارعنا؟ هل أوصلهم كهربائياً ببرامج MTV وأنقذهم؟
في شوارع لندن وغيرها من المدن يشترك مئات الآلاف في مسيرات ضد الحرب، والصحف تزدحم صفحاتها بتعبيرات الغضب والجزع أثارتها دعوة الرئيس بوش إلى الحرب في العالم أجمع، نقابات العمال أعلنت معارضتها في وضوح، أعضاء مجلس العموم يهددون بالثورة على إجراءات الحكومة، المحللون والمعقبون يحللون ويعقبون.
ماذا يملك الروائي القصّاص أن يفعل؟ كتب مارتن إيميس في حزيران يونيو الماضي متسائلاً عن فائدة القصص وجدوى كتابتها في هذه الأيام، أيام ما بعد 11 أيلول سبتمبر عام 2001. قال: "بعد ساعة أو ساعتين من الجلوس إلى مكاتبهم في الثاني عشر من أيلول كان جميع كتاب العالم مضطرين للتفكير في تغيير مهنتهم". ومنذ ما يزيد على عقدين علق فيليب روث بأن "الواقع الحاضر يسبق دوماً قدراتنا الإبداعية".
أفتح بريدي الإلكتروني فتطالعني استغاثة من أطفال الخليل يطالبون بتمكينهم من العودة إلى مدارسهم، ثم خطاب من صديقة تحاول المشاركة في عملية حصاد الزيتون في الضفة الغربية، في منطقة قريبة من مستعمرة آريل، تصف ما يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون لتخريب المحصول، تقول: "إن الميليشيات المسلحة للمستوطنين لا تجد من يكبحها أو يردها عن العدوان". يلي هذا نداء من إذاعة "طريق المحبة" في نابلس تطلب العون كي لا تتوقف عن البث، لأنها وسيلة الاتصال الوحيدة لأهل المدينة بعد 100 يوم من حظر التجول، تليها رسالة من رجل الكنيسة الكبير الأسقف عطالله حنا يصف مخطط سلطات الاحتلال الإسرائيلية ضد الكنيسة الأرثوذوكسية اليونانية في القدس...
من المستحيل أن نغض الطرف عن المنظر الحالك الذي يتعاظم عملياً تحت أبصارنا لنبتدع ونختلق أشياءً من الخيال. إلا أن صنعة الروائي تنطوي على تشكيل النماذج والأنساق، والمنطق من أدواته، منطق تفتح السرد ليكشف تسلسل الأحداث، وكذلك أغراض الشخصية ودوافعها، والتفاصيل الدالة التي تسهم في بلورة الأحداث وتبرز مغزاها، ولا غضاضة على الروائي أن يلعب قليلاً ويبدي الجهل، فهو ليس حكيماً مختصاً، وقد يخطئ أحياناً.
الوقت ضيق لا يسمح بكثير من البناء والاستطراد، وعندما تنتهي أحداث الرواية يكون الوقت فات. ها هي جاهزة شاخصة أمامك: المنحنى الدرامي، والشخصيات، وملابسات وخلفية الأحداث. إن الرواية تُكْتَب اليوم تحت أنظارنا، لكن الخطر أن ننتظر حتى تستكمل الكتابة، فإليكم رؤيا روائية، تقدم تفسيراً للسرد الذي يتكشف أمامنا اليوم، وإلى أين نرجح أن ينتهي بنا.
يمكن أن يبدأ المنحنى الدرامي - إذا شئتم - في آذار مارس من هذا العام بفشل ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، في تأمين مساندة الدول العربية للحرب ضد العراق، ومن الممكن أن يبدأ بإعلان "الحرب ضد الإرهاب"، ويمكننا كذلك أن نضع نقطة البداية بانتفاضة الفلسطينيين في أيلول عام 2000 عندما أدركوا أن سبعة أعوام مضت على اتفاقات أوسلو وما زال تحقيق حلم الاستقلال أبعد من أي وقت مضى، وقد نبدأ بإنشاء دولة إسرائيل في عام 1948 وفرضها على العرب في المنطقة. وأياً كانت نقطة البداية التي يقع عليها اختيارنا، فلا مفر من العودة إلى مطلع القرن العشرين يوم وقع اختيار المؤتمر اليهودي العالمي على فلسطين العربية لتصبح وطناً للشعب اليهودي، وإلى تسهيل بريطانيا تحقيق ذلك الهدف يوم اشتركت مع الفرنسيين في تقسيم الأرض العربية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. ويعرج السرد على اكتشاف النفط في الجزيرة العربية وتنامي اعتماد الغرب على بترول العرب في مسيرة القرن العشرين.
لِمَ يتحتم ضرب العراق الآن؟ ولم توقف عملية السلام الفلسطينية أو تؤجل؟ من الذي يدفع ويناصر مخطط ضرب العراق الآن؟ نعلم جميعاً أن هناك انشقاقاً في الإدارة الأميركية بين نائب الرئيس، ديك تشيني، ووزارة الدفاع من جانب، ووزارة الخارجية من الجانب الآخر. ويوصف هذا الانشقاق عموماً بأنه نزاع بين "الصقور" و"الحمائم". والواقع أن الطرفين يهدفان إلى تحقيق سيطرة الولايات المتحدة على العالم بأسره على أطول مدى يمكن التنبؤ به، وينوون تحقيق ذلك بإرساء قواعد عسكرية في مواقع استراتيجية عبر الكرة الأرضية، وإقامة حكومات صديقة أو عميلة، وتأمين النفط الرخيص لأنفسهم، وإضعاف أو تكسير أي كيان يشتم منه منافسة أو تهديد. لكن يبدو أن فريق وزارة الخارجية يميل إلى التوجه إلى البدء في حل المشكلة الفلسطينية أولاً، أما فريق البنتاغون فيرى أن الطريق إلى الأمن والسلام "الحقيقيين" يمر من بغداد.
في عام 1998 كتب دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الحالي في الإدارة الأميركية، وبول وولفوفيتز، نائبه الحالي، إلى كبار رجال الحزب الجمهوري في الكونغرس، يحذران من أن صدام حسين في إمكانه، بالاستعانة بأسلحة الدمار الشامل، أن يصبح "القوة الفاعلة المحركة للمسار السياسي في الشرق الأوسط".
وفي عام 2000، كشف تقرير كتبه تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز، وقام بنشره "مشروع القرن الأميركي الجديد" أن الرئيس العراقي ما هو إلا ذريعة لتنفيذ مخططات قائمة. "النزاع المعلق مع العراق يوفر مبرراً مباشراً للتحرك، إلا أن الحاجة إلى وجود أعداد كبيرة من القوات الأميركية في الخليج أمر أهم بكثير من مسألة نظام صدام حسين". جريدة صنداي هيرالد.
عندما تولى رامسفيلد الوزارة في الإدارة الأميركية الحالية عيّن ريتشارد بيرل عضو مجلس إدارة جريدة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية اليمينية في منصب رئيس مجلس إدارة لجنة سياسة الدفاع بالولايات المتحدة. وتم تعيين دوغلاس فايث، أحد رجال بيرل، وكيل وزارة الدفاع للسياسات. وكان بيرل وفايث اشتركا عام 1996 في كتابة تقرير استشاري لبنيامين نتانياهو زعيم الليكود عند توليه رئاسة الوزارة الإسرائيلية، أشارا عليه فيه بالخروج على اتفاقات أوسلو والعودة إلى تأكيد حق اسرائيل في الضفة الغربية وغزة.
أما الجهة الثانية التي تستعد للحرب فهي الحكومة الإسرائيلية. ذكرت وكالة "اسوشيتد برس" في آب أغسطس الماضي عن رعنان غيسين، أحد مساعدي رئيس الوزراء آرييل شارون، أن إسرائيل تحض المسؤولين في الولايات المتحدة ألا يؤجلوا الضربة العسكرية ضد صدام حسين: "أي تأجيل للهجوم على العراق في هذه المرحلة لن يفي بأي غرض".
يوم الجمعة، وأنا أوصل أولادي من المدرسة إلى البيت قبل عطلة نهاية الأسبوع، أدرت مفتاح راديو السيارة فسمعت الجزء الأخير من حديث لأندرو موشون، "أمير الشعراء" البريطانيين حالياً. قال ان في قلب كل فنان شذرة من الثلج تمكنه من صياغة الفن من المصائب والأحزان. نعم. ولكن في الليل تمتزج الأحزان الخاصة والعامة. أحلم بزوجي المتوفى في العام الماضي، وبجمال عبدالناصر الذي مات منذ ثلاثين عاماً، وأصحو من نومي وقبضة قارصة البرودة تعتصر قلبي. الكتاب الذي تعاقدت على كتابته عن القاهرة متوقف. كيف أكتب عن مدينتي الحبيبة وأصدقائي في رام الله ونابلس وبيت لحم محاصرون مفروض عليهم منع التجول في مدنهم؟
لماذا يريد شارون حرباً في العراق؟ ولماذا يريدها الآن؟ تحدث عزمي بشارة، عضو الكنيست العربي، في لندن منذ ثلاثة شهور، وحذر من الكلام في فكرة الترانسفير أو الترحيل. فحين نتكلم عن أمر ربما نيسر حدوثه. أشاركه الحذر، لكن الكلام عن الترحيل كثر أخيراً. ومن الموثق قول شارون بأن "الأعمال القذرة" الضرورية لسلامة إسرائيل لم تنته بعد، وأنه مستعد للقيام بها. وقد قام بها فعلاً، في قبية، وبيروت، وفي صبرا وشاتيلا، ولكنها لم تنته. وحين بدأت الولايات المتحدة في إمطار أفغانستان بالقنابل، دخل هو بجيشه إلى غزة والضفة الغربية. لو أن هذه رواية - دعني الآن استخدم تلك الشذرة من الثلج - لقلت أن شارون ينتظر ظروفاً غير عادية ليبدأ تحت غطائها في طرد الشعب الفلسطيني من القدس ومن الضفة الغربية. لكنه في حاجة إلى مكان يطردهم إليه، وربما أيضاً ذريعة وتبريراً. هل كان يأمل أن تتم العملية تحت مظلة الحرب في أفغانستان؟ لم تكد تمر بضع ساعات على وقوع هجوم 11 أيلول في الولايات المتحدة حتى سارع إلى الإعلان أن الإرهاب الذي هاجم اميركا لتوه هو الإرهاب نفسه الذي تعاني منه إسرائيل لسنوات. هل كان يمهد الطريق للحل النهائي لمشكلة فلسطين؟ إلا أن قوات "طالبان" انهارت أسرع مما توقع الجميع، وانتهى دور الحرب في أفغانستان كمشهد مثير يشد انتباه العالم. من الممكن أن توفر الحرب على العراق الآن التغطية التي يحتاجها شارون، ويمكن من جانب آخر أن توفر له مكاناً للمنفى المنتوى، فهو لا يستطيع استخدام سيناء لهذا الغرض، إما بسبب معاهدة السلام بينه وبين مصر أو لأنه يأمل في العودة إلى احتلالها في المستقبل. أما جنوب لبنان فتحميه قوات حزب الله، والأردن مزدحم بشعب فلسطيني نازح، وزيادة أعداده قد تثير مزيداً من القلاقل. ماذا عن دفع أهل فلسطين خارجاً إلى الأردن ومنه إلى العراق بعد إذعانه؟
الراجح أن تصور إسرائيل لنفسها لا يسمح لها بالتنازل عن الضفة الغربية باختيارها. ربما تغيرت الصورة لحظة أثناء رئاسة اسحق رابين للوزارة، ولقي حتفه جراء لذلك، فما دامت اسرائيل تدعي أن حقها في فلسطين قائم على ما ورد في التوراة فحقها المزعوم لا يقتصر على تل أبيب وحيفا، بل يشمل الضفة الغربية والقدس، وفي الواقع يشمل "أرض اسرائيل" كلها، تلك التي تمتد من الفرات إلى النيل. وبناء عليه تتحدث إسرائيل عن السلام، لكنها تقيم المستوطنات اطراداً، تتحدث عن إيقاف الإرهاب وفي الوقت نفسه تهدم البيوت وتقلع أشجار الزيتون وتخرب البنية التحتية في غزة والضفة الغربية، وتعمل وسائل إعلامها دوماً على نفي صفات الإنسانية عن الفلسطينيين، فتصورهم مجتمعاً في قبضة التعصب، محكوماً بالرغبة في الموت.
في حديث نشر أخيراً في صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية وصف رئيس الأركان موشى يعالون الفلسطينيين بأنهم "ظاهرة سرطانية". واعترض إيهود باراك، رئيس الوزراء السابق، فقال إنهم أشبه بالفيروس. وتتيح هذه الأجواء لكاتب يهودي مناصر لإسرائيل أن ينشر مقالاً في جريدة "لوس انجليس تايمز" في 7 نيسان/ أبريل من هذا العام يقول فيه "لو ان اسرائيل في حروب 1948 و1956 و1967 و1973 تشبهت ولو قليلاً بالرايخ الثالث حكم النازية في ألمانيا، لكان الإسرائيليون اليوم يشترون حاجاتهم في المتاجر، ويأكلون البيتزا ويقيمون الأعراس ويحتفلون بالأعياد الدينية من دون أن يتعرض لهم أحد، وبطبيعة الحال كنا نجد بترول الخليج في حوزة اليهود". ربما لن يحتاج شارون أن يحدد تبريراً للطرد الجماعي للفلسطينيين، فقد بدأت وسائل الإعلام في إيجاد هذا التبرير: ورد في إذاعة اسرائيل العربية في 3 آب 2002 أنه "في حال وقوع هجوم أميركي على العراق، سيستعين العراق بالفلسطينيين في شن هجمات بأسلحة بيولوجية".
ويخطر لنا تعقيد في حبكة الرواية التي نحن بصددها، فإسرائيل حقاً دولة ديموقراطية لليهود من مواطنيها. فتبرز لنا شخصيات إسرائيلية تقف في بطولة ضد التيار: مجموعة "الحاخامات من أجل السلام" Rabbis For Peace الذين يؤمنون بالمساواة بين الناس جميعاً، والمجندون الذين يرفضون الخدمة في الأراضي المحتلة، وأساتذة الجامعات والمؤرخون من أمثال إيلان بابي ونائب عمدة القدس السابق، المؤرخ ميرون بن فنستي، الذي كتب في "هآرتز" في 15 آب يحذر من "احتمال وقوع طرد جماعي للفلسطينيين في حال قيام حرب في العراق"، والمهندسون الشباب الذين يكتبون عن "الإحتلال العمودي". وأعضاء حركة "غوش شالوم" السلام الآن الذين تولوا نشر إعلان في الصحف في أيلول يحذرون العالم أنه "أثناء الفوضى التي سوف تعم الشرق الأوسط في حال وقوع الحرب، يأمل شارون أن ينفذ خطته القديمة بطرد الفلسطينيين من فلسطين كلها، وهو على أتم استعداد في سبيل تحقيق هذا الهدف أن يصيبنا جميعاً بالكارثة".
هل يمكن لهؤلاء أن يؤثروا في حبكة الرواية ومسارها؟ حتى الآن يبدو أن الجواب بالنفي. ويبدو أن النداءات التي يوجهونها إلى أهل بلدهم لم تلق أذنا صاغية. وردت جملة دالة في مقال نشره في جريدة "غارديان" أخيراً الروائي الإسرائيلي المعروف ديفيد غروسمان. يقول: "يؤرخ الفلسطينيون بداية خط الصراع في عام 1948 مع إنشاء دولة اسرائيل، أما الإسرائيليون فيؤرخون للبداية بأيلول 2000 بداية الانتفاضة". وهذا خلاف فاصل في منظور القضية. أما الرافضون الاسرائيليون الذين يتبنون النظرة الفلسطينية، فيضيفون عمقاً مأسوياً لهذا السرد. أو، في تصور أكثر رجاء، يمكنهم أن يمدوا القوى الخارجية بالتبرير المطلوب لإحباط خطة شارون.
في آذار الماضي أعلن الأمير عبدالله بن عبد العزيز، ولي العهد السعودي، اقتراحاً بخطة للسلام تشمل تطبيع علاقات جميع الدول العربية مع اسرائيل. وأيد الرئيس بوش الاقتراح في بادئ الأمر، لكن تشيني ورامسفيلد احتجا بأن الحرب على الارهاب تعني مساندة شارون. وفي 4 نيسان أعلن بوش أن "الالتزام الأخلاقي الواضح" يوجب مهاجمة الإرهاب بكل أشكاله. وحتى اليوم يبدو أن أوراق البنتاغون هي الرابحة، وبناء على هذا التحليل نجد أن البنتاغون لا يقف فقط موقف "الصقور" في تقديم ورعاية مصالح الولايات المتحدة، بل يلتزم بطموحات إسرائيل ورؤياها للعالم.
يقول إيهود سبرنزاك، خبير الإرهاب الإسرائيلي، ان هدف الولايات المتحدة في العراق إنشاء "مملكة هاشمية متحدة" تجمع "المناطق السنية" في العراق والأردن، ويذكر سبرنزاك أن مؤلفي هذه الخطة هما تشيني وولفوفيتز.
يقال إن جورج بوش، في أعقاب أحداث 11 أيلول، استشار كاتب السيناريو لفيلم Diehard 2 في كيفية التعامل مع العرب والإرهابيين. لعل الفيلم الذي يشتغل بوش بتصويره اليوم يقوم على سيناريو تغزو فيه الولايات المتحدة العراق - بمساندة بريطانيا - في عاصفة من النار ثم تخرج منه مع خسارة عدد مقبول من الضحايا من الإنكليز والأميركيين، وقد صهرت البلد وشكلت منه مملكة هاشمية لينة المراس، رئيس وزرائها معتدل على مثال حامد كارزاي، ودولة إسرائيل خالصة لليهود سعيدة ومطمئنة، وتقوم الدولتان بدورهما كمنارتين لنشر الديموقراطية ومبادئ السوق الحرة في بلاد الشرق الأوسط المجاورة، وتبدأ حقول البترول الغنية في ضخ الملايين من البراميل يومياً، يربطها خط الأنابيب إلى حيفا الذي توقف استخدامه عام 1948.
وهناك سيناريو آخر يكتبه القس جيري فالويل والأصوليون المسيحيون الأميركيون الذين خطب ودهم بنيامين نتانياهو بكل دهاء في السنوات الماضية. يقول إدوارد مكاتير، أحد مؤسسي "جماعة الأغلبية الأخلاقية" وأحد كبار رعاة اليمين المسيحي "أعتقد أننا اليوم نشهد النبوءة تتحقق وتتكشف بسرعة ودراما مدهشة. من دون مبالغة أكاد ألهث طرباً". لمزيد من تفاصيل هذا السيناريو، وتفصيلات يوم الهلاك الأكبر "ارماغادون" أنظر كتاب الرؤى.
أما الرواية الواقعية التي يكتبها مؤلف إنسان فعليها أن تقدم بانوراما ضخمة تصور الحرب والدمار، الناس رجالاً ونساء يحملون أطفالهم ومسنيهم وحوائجهم، يتعثرون يعبرون الحدود: دورة جديدة من الهلع ومن الذنب. ربما لا تنفجر بلدان الشرق الأوسط في التو واللحظة، لكن حكامه سيلجأون إلى المزيد من الحديد والنار لقمع الشعوب. سيعبر الغضب اليائس عن نفسه في أفعال رهيبة يائسة، وتمتد الحرب التي كتب بوش وصفتها للعالم لتستمر أجيالاً وتنتشر في أنحاء المعمورة. ومن يجرؤ في الدول المسيطرة: الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، على التساؤل والتشكيك أو الحديث عن الأسباب سيهمش ويُجرّم، وفي تلك البلاد نفسها لن يعود هناك مفر من الإجراءات الفاشية للحكم وإدارة المجتمع. ستلزمنا مكتبة من الروايات لتصوير ما يصيب العرب، والأميركيين والإسرائيليين والبريطانيين. نظام عالمي جديد من أصحاب القلوب الكسيرة.
على أن أملنا في نهاية بديلة: يغلب تأثير وزارة الخارجية على السياسة الأميركية، وأوروبا على الأمم المتحدة، فترفض تلك الأخيرة القرار الجديد المتزمت المقترح في شأن التفتيش على الأسلحة. يطير المفتشون إلى العراق، ويسمح لهم بالقيام بمهمتهم. أما اسرائيل فتدفع إلى مائدة المفاوضات الدولية في المملكة المتحدة أو في أوروبا، لإنقاذها من نفسها، أو يملي عليها العالم أن تنسحب من الأراضي المحتلة، الآن، ليس في 2004. تطير قوات دولية أو قوات الأمم المتحدة إلى الضفة الغربية وإلى غزة لحماية السكان الفلسطينيين، والإشراف على الانسحاب وتأمين حدود إسرائيل. يقيم الفلسطينيون دولتهم، وتستمتع اسرائيل بالأمن في حدود ما قبل حزيران 1967. تطرح مشكلة اللاجئين على المائدة للتفاوض في شأن حل عادل قابل للتنفيذ. يهدأ غضب العرب والمسلمين ويتدفق البترول بلا عوائق إلى أميركا. عندها يمكن للعرب أن يوجهوا جهودهم إلى التنمية وإلى الديموقراطية بعد نزع شوكة النزاع الاسرائيلي - الفلسطيني من قلوبهم، وتعود الولايات المتحدة إلى مكانها كصديق كما تصورها العالم يوماً. يسقط شارون ويحل محله رئيس وزراء حكيم ليقود بلاده. يضطر تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز وشركاؤهم إلى تأجيل حلمهم بالسيطرة على العالم الى وقت آخر. تغادر الشخصيات الثانوية والكورس الصفحة المسرح لتعيش حياة عادية، حياة إنسانية: يشهدون مناسبات ويحضرون احتفالات في بيوت جميلة، يستمعون إلى السيتار أو الناي أو الساكسوفون، وعندما تلم بهم الأحزان ندعو الله أن تقتصر على ما لا يمكن دفعه، بدلاً من تلك المآسي التي نحن بوشك أن نجلبها على أنفسنا.
* كاتبة مصرية.
ينشر في وقت واحد مع مجلة "نيوستايتمنت" البريطانية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.