لا يتفجر العدوان بدافع من الكراهية، بل من الشعور بالاحتقار. هذا هو الأساس الذي تنبني عليه حملات الدعاية السوداء أو ما كان يسمى ب "بروباغندا الحرب". قبل ان تتحرك الجيوش على الأرض لا بد من أن تسبقها حملات إعلامية تملأ أفئدة الناس باحتقار العدو، فبغير هذا الاحتقار، يستحيل القضاء - بضمير مستريح - على أفراد العدو. لا بد من حال حرب عقلية تمهد لأي حرب، في هذه الحال من البديهي أن العقل سينشغل بشيء واحد، هو الحرب، بعد ان يسقط كل شواغله الأخرى. الاحتقار المولد للكراهية، يسبقه في العمق أساس أبعد وأكثر قوة وفاعلية هو الإحساس بالخوف من العدو، فمن خلال عشرات الحكايات عن غدر العدو ووحشيته، وانعدام إنسانيته وبشريته وعدم استحقاقه الحياة، تتخلق صورة مخيفة له، تنعكس على سلوك البشر، فتجعلها عاجزة عن أن تحيا حياة طبيعية. بذلك تنهار داخل المجتمع ملايين التفاصيل الطبيعية ليحل محلها كل ما ليس طبيعياً. ذلك وضع موقت بالطبع، لأن الحرب، بغض النظر عن نتائجها، ستضع نهاية له. ولكن، لنفرض أن جماعة متنفذة من البشر أشاعت في المجتمع حالاً من الحرب العقلية، وحرصت في الوقت نفسه على تجنب الحرب، هنا لا يحتاج المرء إلى خيال كبير ليدرك مدى ما ستفعله هذه الحالة الذهنية بالناس. بالتأكيد، سيعلنون هم أنفسهم الحرب، ليس على العدو الذي تمت تهيئتهم نفسياً وعقلياً للقضاء عليه، بل على الجبهة الوحيدة المتاحة لهم وهي ... أنفسهم. ذلك المزيج المؤلم من الخوف والكراهية والاحتقار - في غياب حرب فعلية - لا بد من أن يجد له متنفساً في الشوارع والمكاتب والحقول والاسواق. هكذا يمكن بسهولة تشخيص حالات من الانحراف كان من المستحيل أن تحدث - على الأقل بصورتها الراهنة - في غياب حال الحرب العقلية. لم تكن معركتي في مصر خلال ثمانية اعوام تقريباً، من أجل تدعيم السلام بين مصر وإسرائيل، فلم يكن الأمر بحال من الاحوال في يدي، وهو الآن أبعد عن أن يكون في يد أي مخلوق، ولكن، كنت أحاول بوسيلتي الوحيدة، وهي قلمي، أن أتصدى لكشف وشرح ما يمكن أن تحدثه حال الحرب العقلية - بغير حرب - في المجتمع نفسه. أعترف - الآن - بأن نظرتي لم تكن شاملة بما يكفي للتعرف الى حجم هذا الخطر، فقد تصورت أن هذا الخطر سيكون مروعاً على جبهة الإبداع الفني والفكري بما قد يترتب عليه من خفوت لصوت مصر في منطقتنا وفي العالم. فمصر اكتسبت موقعها اساساً في قلوب أهل هذه المنطقة بالإبداع الفني وبأفكار الحداثة، وبتقديم النموذج الجدير بالاحتذاء وليس بالخطب الثورية أو بالمدرعات أو بحملات التخويف لسائر البلاد والعباد. غير انني لم أكن أتصور أن الخطر المحتمل سيتعدى دائرة الإبداع بكل صنوفه ليصل الى دائرة الحياة اليومية في كل مجالات الحياة بما يعطل مسيرة المجتمع نفسه. في حال الحرب العقلية - بغير حرب - سيتحول الناس جميعاً بفعل الخوف من اللحظة المقبلة، الى قطاع طرق، الى فرسان بلا جياد. خطأ آخر وقعتُ فيه لا بد من الاعتراف به بكل وضوح. كنت أتصور أن مجرد التنبيه المتكرر لخطورة ذلك الاتجاه على المجتمع، سيكون كافياً لإيقافه أو على الأقل الحد منه، ولكن لم أتنبه إلى صعوبة ذلك أو استحالته، فمصدره بشر ذوو نفوذ يشعرون بقدر هائل من الخوف، بل إن الخوف ذاته هو مصدر نفوذهم وسر قوتهم وأيضاً رزقهم في أحيان كثيرة. أرجو ألا يفهم القارئ من ذلك أنني لا أشعر بالخوف، فقد أكون أكثر الناس خوفاً، غير أنني أعرف بالضبط مصادر شعوري بالخوف، وبالتالي لا أسمح للخوف بإحداث تأثيرات في عقلي لا أرضاها لنفسي. لا أعرف مدى نجاحي في ذلك، لكنني على يقين من أنني لم أسمح لخوفي أن يدفعني الى إعلان موقف لا أؤمن بصحته، فللعقل حيل كثيرة يخفي بها أحاسيسه الحقيقية محولاً إياها الى انفعالات أخرى، ومنها ذلك الانفعال الشهير الذي يسمى حب مصر. فمصر الآن تعاني حال حب عنيفة من بعض الكتاب والفنانين والسياسيين تسبب لها ازعاجاً شديداً، وآخر تجليات هذا الحب العنيف هو مسلسل "فارس بلا جواد". واذا كانت هناك حسنة وحيدة لهذا المسلسل فهي أنه جسَّد بوضوح وبشكل لا لبس فيه كل ما يمكن أن تحدثه حال الحرب العقلية بغير حرب، إنها - يا سادة - مرحلة الفرسان بلا جياد. هؤلاء الفرسان فشلوا في العثور على جياد يركبونها، أو فشلوا في ركوبها، فقرروا أن يركبوا أهلهم مطية للسير في طريق الثروة والنفوذ بغير فعل حقيقي. الطبيب الفارس لا بد من أن يفهم في الطب، والمهندس الفارس لا بد من أن يفهم في الهندسة، ورجل السياسة الفارس لا بد من أن يكون واعياً بأقصر الطرق التي تحقق له هدفه السياسي، كذلك الفنان، لا بد من ان يكون مبدعاً أولاً. واذا تشكلت جمعية من محبي مصر، الطبيب فيها لا يجيد الطب، والمحامي يحتقر القانون، والصحافي لا يعمل عند القارئ، والفنان لا ينتج فناً، ورجل السياسة لا يحرص على مصلحة أهله، ثم انضم إليهم العجزة من أصحاب المهن الأخرى، اضافة إلى عدد من الصيّع والعواطلية الذين لا تعرف لهم مهنة محددة، غير حبهم الزاعق لمصر، ثم وقفوا جميعاً في ميدان التحرير في وسط القاهرة، وصرخوا في وجوهنا: نحن في حال حرب مع الصهيونية، وأميركا، والامبريالية العالمية.. بل والانكليز والاتراك... المطلوب منا فقط هو أن نحب مصر. اعتقد ان من حقنا في هذه الحال ان نقول لهم: حسناً أيها السادة. اسمحوا لنا فقط ان نطلب منكم أن تحبوها بشكل لا يسبب لها كل هذا القدر من الازعاج والمتاعب. هل من المحتم أن تحبوها وتغِيروا عليها على طريقة السيد عطيل؟ في حال الحرب العقلية بغير حرب، تسقط الحرفة، اي حرفة وكل حرفة، وعلى جبهة الإبداع الفني والفكري والسياسي، تكون الطريقة الوحيدة للنجاة هي الالتحاق بلواء الفرسان بلا جياد، أي السير طواعية او إجباراً في طريق الغش والكذب والتدليس، فيسقط الصدق والنبل وتختفي الثقة العامة، فتنشط اسوأ غرائز البشر ويتحولون الى كائنات تبحث عمن تفترسه. * كاتب مصري