الثنيان يرصد المسافة بين الوهم والحقيقة من أحداث سبتمبر    من التمريرات إلى الأرباح    جرائم تحت الملاحقة.. النيابة تتصدى.. العدل تحسم    البرلمان العربي: ما يحدث في الضفة الغربية انتهاك صارخ للقانون الدولي والإنساني    المشي حافياً في المنزل ضار للقدمين    العمل المكتبي يُبطئ الحركة ويزيد الأرق    عقل غير هادئ.. رحلة في أعماق الألم    كاميرتك..دليل إدانتك!    أمر ملكي.. تمديد خدمة عبدالعزيز بن سعد أميراً لمنطقة حائل لمدة 4 أعوام    ترامب: مستعد للاجتماع مع بوتين «فوراً» لإنهاء حرب أوكرانيا    القبض على (12) إثيوبياً في جازان لتهريبهم 216 كجم "قات"    400 مشارك في جائزة "تمكين الأيتام "    سلمان الشبيب.. من ضفاف الترجمة لصناعة النشر    الأخضر تحت 16 يفتتح معسكره الإعدادي في جدة بمشاركة "27" لاعباً    المملكة وأميركا.. علاقة تاريخية وشراكة استراتيجية    %2 نموا بمؤشر التوظيف في المملكة    "خالد بن سلطان الفيصل" يشارك في رالي حائل 2025    كل التساؤلات تستهدف الهلال!    العلاقات السعودية الأمريكية.. استثمار 100 عام!    ما أحسنّي ضيف وما أخسّني مضيّف    السياسة وعلم النفس!    غزة.. لم يتبق شيء    أمانة جدة تضبط 3 أطنان من التبغ و2200 منتج منتهي الصلاحية    أميركا خارج اتفاقية «باريس للمناخ»    الثنائية تطاردنا    تاريخ محفوظ لوطن محظوظ برجاله..    تمديد فترة استقبال المشاركات في معسكر الابتكار الإعلامي «Saudi MIB» حتى 1 فبراير 2025    أعطته (كليتها) فتزوج صديقتها !    السواحه: المملكة تقود التحول نحو اقتصاد الابتكار بإنجازات نوعية في الذكاء الاصطناعي والتقنية    رحلة نفسيّة في السفر الجوّي    العمل عن بُعد في المستقبل!    الإلهام السعودي.. المرأة تقود مسار التنمية    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة فيفا    وزير الصناعة والثروة المعدنية يفتتح المؤتمر الدولي ال 12 لتطبيقات الإشعاع والنظائر المشعة الأحد القادم    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيس منغوليا في وفاة الرئيس السابق    هيئة الفروسية تناقش مستقبل البولو مع رئيس الاتحاد الدولي    سرد على شذى عطر أزرق بمقهى "أسمار" الشريك الأدبي في أحد المسارحة    نائب وزير البيئة والمياه والزراعة يرفع الشكر للقيادة بمناسبة تمديد خدمته ل4 سنوات    فعالية "اِلتِقاء" تعود بنسختها الثانية لتعزيز التبادل الثقافي بين المملكة والبرازيل    إنجازات سعود الطبية في علاج السكتة الدماغية خلال 2024    هطول أمطار متفاوتة الغزارة على معظم مناطق المملكة.. ابتداءً من اليوم وحتى الاثنين    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين ك"منظمة إرهابية أجنبية"    ولي العهد يُجري اتصالاً هاتفيًا بالرئيس الأمريكي    1000 معتمر وزائر من 66 دولة هذا العام.. ضيوف» برنامج خادم الحرمين» يتوافدون إلى المدينة المنورة    أمير الشرقية يستقبل الفائزين من "ثقافة وفنون" الدمام    أفراح آل حسين والجحدلي بزواج ريان    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    ثقافة الابتسامة    وصية المؤسس لولي عهده    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    ندوة الإرجاف    المجتمع السعودي والقيم الإنسانية    فرص للاستثمار بالقطاع الرياضي بالمنطقة الشرقية    "ملتقى القصة" يقدم تجربة إبداعية ويحتضن الكُتّاب    اختتام المخيم الكشفي التخصصي على مستوى المملكة بتعليم جازان    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نص عثماني للمفكر القومي لأول مرة بالعربية . ساطع الحصري "في سبيل الوطن" العثماني قبل دعوته اللاحقة إلى القومية العربية 2 من 2
نشر في الحياة يوم 23 - 11 - 2002

اشتهر عن ساطع الحصري، أحد المنظّرين للقومية العربية، اعتباره اللغة والتاريخ العاملين الأكثر أهمية في تحديد هوية الأمة الثقافية والسياسية، لكن ساطع الحصري، في مرحلته العثمانية، كتب ونشر نصوصاً باللغة التركية - العثمانية اعتبر فيها الدين مكوّناً رئيسياً من مكوّنات الوطن - الأمة، الأمر الذي عاد فأهمله الى حد بعيد لدى تنظيره للقومية العربية.
نشرنا أمس تقديماً وترجمة لأبرز نصوص الحصري العثمانية في هذا المجال، وهنا نتابع نشر ترجمة النص:
اساس الوطنية وأهميتها في حب الوطن وحب الدولة. فالإنسان يولد وينمو وهو مرتبط بالمكان والأرض التي قضى فيها عمره وبخاصة فترة الصبا والشباب، ويكون لديه مشاعر قلبية - مختلفة عن الغرباء - نحو هذا المكان.
اننا نعرف جميعاً ومن دون شك، الى أي مدى يكون الأطفال اكثر ارتباطاً بمخادعهم وألعابهم وغرفهم وحدائقهم وشوارعهم. لأنهم يشعرون هناك وكأنهم اصحاب لتلك الأشياء، مع اعتبار انهم يشعرون بالأمن والاستقرار في تلك الأماكن عن تلك الأماكن والأوقات الأخرى التي قضوها في اماكن مختلفة. وكلما ذهبوا الى اماكن اخرى يزداد الشوق لديهم الى هذه الأماكن، ويشعرون بالرغبة في العودة إليها. كما انهم يظهرون ارتباطاً وثيقاً بأمهاتهم وآبائهم وأجدادهم وجيرانهم وبالذين وجدوا معهم وبهؤلاء الذين اعتنوا بهم، والذين لعبوا معهم، حيث انهم يخصونهم بنوع من العلاقة الحسية والشعور بالأمان. وفي حال الإحساس بالخوف من الأجانب والغرباء، فإنهم يميلون الى ان يكونوا مع هؤلاء الأقرباء. وحين يلتقون مصادفة مع واحد من هؤلاء - بعد مدة زمنية من الغياب - يشعرون بالسعادة والسرور ثم بعد ذلك، كلما مرت السنون وكلما استمر وجودهم في خارج الأوطان، اظهروا ارتباطاً وثيقاً ببلادهم وبقاعها من احياء سكنية وقرى ومدن، حيث يشعرون بالعلاقة والأنس مع اهالي تلك الأحياء والقرى والمدن. هذا الحب وهذا الارتباط يتجلى بوضوح اكثر وقت وجودهم بين الأجانب وذهابهم الى اوطان وبلاد اخرى. ويمكن فهم هذه العلاقة وذلك الارتباط لدى الإنسان بوطنه وأقاربه، وقت ان يتقابل مصادفة مع شخص من وطنه الذي تركه، او ان يسمع شيئاً يتعلق ببلاده، أو ان يعود الى وطنه.
يمكن القول، اذاً، ان الإنسان بعامة مرتبط بمجموعة من الروابط النفسية والمعنوية مع وطنه وأقاربه، وأن حياة كل شخص تكون بمثابة قطع دفنت في كل طرف من وطنه.
هذا الاتجاه وذلك الوطن، بكل اركانه وبقاعه، تذكر الإنسان بحياته الماضية صفحة صفحة، وتكون بمثابة خواطر منفصلة. والأكثر من هذا، ان الأماكن التي احبها واعتز بها الإنسان والخواطر الخاصة بها، تكون مدفونة في الأطراف المختلفة للوطن. هذا الى درجة انه يكون متأثراً بالأسماء التي سمع عنها من دون ان يعرفها، حتى لو كانت آثار أناس عظام لم يسبق له ان تعرّف إليهم، كل هؤلاء يكون لهم مكان مدفون في الذاكرة.
والخلاصة، ان اشياء مثل اسم الوطن وصوره ومناظره، وأهله وملابسهم وعاداتهم ولهجتهم اللغوية، وكل شيء يحتل مكاناً عظيماً في النفس الإنسانية. ولو تصورنا امكان نزع هذه الخواطر والذكريات من ذهن الإنسان والتي ترتبط بالوطن، فإن الشيء المتوقع هو ألاّ يبقى شيء ذو قيمة في شخصيته.
ان الحب والارتباط الموجود لدى الإنسان نحو وطنه، على قدر ما يعتبر تعبيراً عن مشاعر دفينة، إلا انه في بعض الأحيان يكون على شكل نوع من المرض. ويكون باعثاً على المرض والاضطراب. فالبعض حين يبتعد عن موطنه يلتزم جانب الحسرة على بلاده والشيء الذي يسمى بداء الصلة والحنين، ويظل منشغلاً ذهناً وحساً بالأوطان دون غيرها، بل ويشعر بنوع من العصبية والقلق المرضي لأجل الأوطان، ويصاب بالاضطراب والكوابيس المزعجة وكذا وسوسة الموت، ويفقد شهية الطعام ويضيع من جفنه النوم، وكلما بعدت الشقة والمسافة بين هؤلاء البعض وأوطانهم فشلوا في الخروج من حال هذه الاضطرابات الذهنية والعضوية.
لا شك في ان تكاثر وسائل النقل والترحال وتعددها، قد اديا بدورهما الى ازدياد حركة السفر والسياحة. وهذا بالطبع، لعب دوراً بارزاً في التخفيف من اشكال القلق والاضطراب المرتبطة بالوطن. وعلى رغم هذا، فإن الارتباط بالوطن والحنين إليه لم ينقص كثيراً، وأن هؤلاء الذين قضوا حياتهم في التنقل والسفر بين اوطانهم، كلما تكررت رؤية مسقط رأسهم وعائلاتهم وأوطانهم شعروا بلذة درجة كبيرة من السرور.
هكذا، يرى ان حب الوطن لا يشبه حب الدولة. القول الصحيح انه لا يوسع دائرة حب الدولة، ذلك ان الإنسان يلقّن فكره ان الدولة هي شيئان جزئيان امام تراب الوطن، وأن العائلة الاجتماعية التي تتكون من افراد المجتمع والمواطنين، تحب مثل ذلك الحب الموجود بين المواطنين والوطن وبين الأفراد والدولة، ويفتخر بها مثل هذا الفخر الموجود بين المواطنين والوطن وبين الأفراد ودولهم.
من المعلوم ان تراب الوطن ليس له الكيان المادي والمحسوس نفسه وتلك الشخصية الموجودة لدى ارض الدولة، ذلك ان الروابط والصلات المعنوية الموجودة بين الناس الذين يعيشون في حدوده تكون مرتبطة وتابعة لتلك الحدود، ولذا فإن مربط العناصر الأصلية للوطن هي تلك الرابطة المعنوية.
ان الروابط الموجودة بين الناس سواء من ناحية العلاقات والحب هي متنوعة جداً. مثل رابطة الدم ورابطة اللغة ورابطة الدين، وكذا وحدة الدولة... وفي الذكريات الخاصة بالماضي، وفي المصالح الحاضرة، والاشتراك في الآمال والمتعلقة بالمستقبل... وفي الحس والمشاعر المشتركة... كل تلك تقع تحت باب الروابط المشار إليها.
تعالوا نمعن النظر والفكر في كل رابطة من تلك الروابط على حدة: وحدة الدم مثلاً. ليس هناك اي شبهة حولها على الإطلاق، لأن الارتباط الذي ينشأ بين الناس وبعضهم بعضاً من جهة الدم يحدث تأثيراً عظيماً في ما يتعلق بالشعور بالمواطنة، إلا انه على رغم هذا، فإن البحوث العلمية تقول إن "رابطة الدم" ليس لها اي علاقة حقيقية لدى اي شعب ولا اي قوم، بمسألة الوطن والوطنية، ولكن هذا لا يمنع من وجود قسم لدى بعض الشعوب والأمم، يقترب من بعضه بعضاً اكثر بدافع رابطة الدم. ومن الأمثلة ايضاً على ذلك ما يرى بعين اهالي شمال فرنسا وجنوبها، حيث تضعف العلاقة بين هؤلاء الى درجة اقل من العلاقة الموجودة بين الإنكليز والألمان. ويمكن مشاهدة هذا بوضوح في الفارق الموجود بين الأميركيين على رغم اختلاف رابطة الدم، وهذا الفارق ليس مجهولاً لديهم على رغم ان الكثير من العائلات الموجودة في اميركا تعرف اصولها ومنشأها في شكل جيد. ولأن الأميركيين يقبلون افكار المواطنة التي تنتمي الى رابطة الدم، فإنهم يفتخرون جميعاً بأميركا وبالأمركة.
اي ان المستفاد مما سبق هو ان رابطة الدم او الاعتقاد والإيمان برابطة الدم ليست بالرابطة الضرورية واللازمة للمواطنة. بل ان وحدة او رابطة اللغة هي الأكثر اهمية من رابطة الدم. خصوصاً ان اللغة تمثل الوسيلة الأكثر اهمية في تبادل الأفكار والحس والشعور، ذلك ان الناس يستطيعون فهم بعضهم بعضاً تربط بينهما لغة مشتركة، فإن الفكر أو الشعور الموجود لديهما، اياً كانت درجته، وتشابهه، فإنه، لا شك، يظل من دون قيمة، خصوصاً انهما لن يكونا قادرين على التفاهم والتفاعل بسهولة، ولا يحدث بينهما التوافق.
اذا وضعنا في الاعتبار الأهمية الكبيرة للتشابه والتقارب اللغوي والفكري، فإننا نجد ان كل لغة هي بمثابة خزينة مستقلة من الفكر والحس، وأن لكل لغة شكلاً وأسلوباً من التفكير والشعور، وأن تقول تعلّم لغة، فإن الأمر يعني امتلاك الأفكار والحواس التي تفسر وتدل على معاني كلمات هذه اللغة، بدرجة من الدرجات، وأن تتكلم بتلك اللغة نفسها، فيلزم امتلاك الدرجة نفسها - وهي عملية اساسية منطقية - التي تمكن من الوصول الى الهدف والمرام وإعمال الفكر والذهن. وأخيراً، فاللغة هي عبارة عن مجموعة الألفاظ والأفكار والمتلقيات الموروثة والمنقولة عن الأجداد، ولكن يمكن الحديث بهذه اللغة ايضاً، فالأمر يتطلب الاستماع الى كل تلك الأساليب والألفاظ اللغوية من عمر مبكّر، وأن يتم توارث كل امثلة الأجداد وحِكَمهم.
ومن اجل كل تلك الأسباب، فإن اللغة هي اهم الروابط المعنوية الموجودة بين الناس والبشر، وحين نقول امة او شعباً فإننا نقصد لغة، ويقول احد الأدباء الفرنسيين من تشبيه ظريف: إن الشعب والأمة التي تتعرض للاحتلال من طرف اجنبي، وتحافظ على لغتها، تكون في حال تشبه حال ذلك السجين الذي اودع السجن ويملك مفتاحه، لأن هذه الأمة تملك وسيلة عظيمة تستطيع من خلالها تحقيق استقلالها والتخلص من الاحتلال وتستطيع من خلالها ان تعيش من جديد وأن تحفظ وجودها مرة اخرى. وإذا أردت ان تقضي على امة "فلتقض على لغتها اولاً".
ومع ذلك، وكما رأينا الأهمية الكبيرة المعنوية والاجتماعية للغة، فإن الجماعات البشرية التي توحدت لغاتها في لغة واحدة، تكون قد اعترفت بأوطان متفرقة اخرى وكذا بأمم وشعوب متفرقة اخرى. وبالعكس من ذلك، فإنه في حال وجود فوارق واضحة في اللغات، فإن هذا يعني توحد الشعب والأمة، وتدخل في عداد الجماعات او الشعب الذي يملك وطناً واحداً مشتركاً. ويمكن النظر الى دول مثل سويسرا التي بها ثلاث لغات مختلفة، وبلجيكا الموجود بها لغتان. وإذا تكلم قسم من البلجيكيين او السويسريين الفرنسية فقط، فإنهم لا يعتبرون من المواطنين ولا حتى من الشعب، وهو رأي قاطع لا شك فيه. وأما في ايرلندا على رغم تكلم الأهالي اللغة الإنكليزية، فإن هذا لا يعني انهم انكليز، وأن وحدة اللغة عندهم لم تكن مانعاً في تكوين أو تشكيل دولة وشعب مستقل يقف في وجه الإنكليز.
والحاصل، ان وحدة اللغة على رغم الأهمية العظيمة لها والموقع المتميز الذي تحتله بين عناصر الوحدة الوطنية، وعوامل المواطنة، على رغم هذا فإنها لا تعتبر عنصراً ضرورياً ولا كافياً في هذا الصدد.
الرابطة الدينية
اما حين نأتي الى الرابطة أو "الوحدة الدينية"، وهي بالطبع، تمثل احدى الروابط العامة، فإننا حين نضع هذه الرابطة في اطار النظرة الأوروبية، ومدى قيمتها هناك، نجد انها كانت تحتل مكانة متقدمة خلال القرون الوسطى وكذلك خلال عصر النهضة، امام كل الروابط الأخرى، حيث وجدنا كيف اتحد وتجمّع اهل الصليب الصليبيون تحت هدف ورغبة واحدة، وبالملايين، في اطار الحس الديني، خلال الحروب الصليبية، على رغم الاختلاف الظاهر في الأوطان واللغات. كذلك، نجد كيف اجتمع وتلاقى كل من الألمان البروتستانت والألمان الكاثوليك، اثناء الصراعات الدينية، معتبرين ان الفرنسيين يشكلون عدواً مشتركاً. والواقع ان مسألة الحس الديني او الرابطة الدينية قد ضعف دورها كثيراً في اوروبا على اعتبار انها رابطة "وطنية وقومية" خلال العصر الحاضر، إلا انها لم تنته في شكل كامل. كذلك، كانت الرابطة الدينية هي العامل الرئيس والمحرّك للعصيان والثورة التي قام بها البلجيكيون ضد الهولنديين، وعلى رغم كون البلجيكيين من أتباع المذهب الكاثوليكي إلا انهم شاركوا في الثورة التي وقعت ضد الهولنديين الكاثوليك الذين يتحدثون لغتهم نفسها، وانفصلوا عن هولندا وكونوا مع اهالي الفلمنغ دولة بلجيكا. كذلك، خلال الحرب الروسية - اليابانية، وكذا حروب البلقان، ظهر الى اي مدى الارتباط الوثيق بين حب الوطن والالتزام الديني الموجود في العالم الأورثوذكسي. ويقول احد المفكرين الفرنسيين ويدعى "اميل فاكي" في كتاب بعنوان "شمولية الدين" الذي يدرس ويبحث في موضوع العوامل والعناصر المتعلقة بالوطنية، يقول: "على رغم عدم تحديد فرنسا ديناً رسمياً لها، وعدم وجود اي تأثير للعامل الديني في الأمور الرسمية، وعلى رغم كون الدين يرتبط بأمم وشعوب متعددة، إلا ان الكنيسة تظل امراً قومياً، وأحد الروابط الوطنية". وفي اطار هذا الرأي يقول ايضاً: "إن الكاثوليكية تشكل شعوباً وأمماً اخرى غير الفرنسيين مثل الإيطاليين والإسبان، ولكن تظل للكنيسة الكاثوليكية الفرنسية تقاليد خاصة بها، تقاليد هذه الكنيسة هي احدى روابط الفرنسة".
اي ان كلاً من الدين ووحدة العقيدة تدخل بين العوامل والعناصر الوطنية في اوروبا، إلا ان هذا لا يعني انها تشكل وتكوّن عنصراً ضرورياً.
ايضاً هناك رابطة "التاريخ" وهي من الروابط العامة. هذه الرابطة هي موضع الفخر والاعتزاز لدى كل افراد الشعوب والأوطان، لأن الكل يفتخر بالانتصارات نفسها وبالأجداد انفسهم... ويتألم للمصائب والمواجع نفسهاويعطيها كل احاسيسه ومشاعره، ويحافظ على تراث وموروثات الأجداد القديمة، وينقلها الى الأجيال الجديدة، بكل الحماسة والهمة.
وخلاصة ذلك، ان الرابطة التاريخية او الوحدة التاريخية تقوم بتوحيد الأفراد في شكل "عائلة واحدة"، من خلال الاشتراك في مشاعر وحواس ترتبط بالأجداد وبالأيام الماضية. وعلى رغم كل ما لهذه الرابطة من قيمة، إلا انها، ايضاً، لا تعد رابطة ضرورية. ذلك ان الحوادث والتواريخ المتداخلة والمنفصلة لديهم او في ما بينهم كثيرة.
من الأمثلة ايضاً، معلوم ان منطقة سافوي قد انضمت الى فرنسا حديثاً، إلا ان اهالي تلك المنطقة لم يشاركوا في تاريخ فرنسا. وعلى رغم ذلك، لم يكن الأمر مانعاً في كونهم مواطنين فرنسيين. اما الأميركيون - قبل قرن ونصف القرن من الزمان - فقد تخلوا عن الروابط التاريخية الوقتية وهبوا الى الثورة ضد الإنكليز من اجل الحصول على الاستقلال، وأهملوا الرابطة التاريخية حين وجدوا انها تبقيهم مرتبطين بالإنكليز.
وهكذا، فإن كل تلك الروابط، سواء اكان الوجود تحت سيادة واحدة، او ان تكون تابعاً للقوانين نفسها، أو ان توجد بين الناس مجموعة متشابهة ومتفقة في المشاعر والمعتقدات، كلها تعد مهمة ولكن لا يمكن إحداها ان تكون محظية بدرجة او مقام ضروري وقطعي عن غيرها.
وبعد كل تلك الشروح والتفاصيل السالفة، فإننا نستطيع ان نحدد في شكل جيد ماذا يعني الوطن؟
إن الوطن يشتمل على عناصر مادية ومعنوية، بدنية وحسية. فأما الماديات او البدنيات فهي الأرض والجبال والأنهار والبحريات والبحار والهواء والماء والمدن والغابات، الخ. وحين نأتي الى المعنويات فهي مثل: مجموعة المشاعر والأفكار المشتركة التي تربط وتوحّد بين العناصر البشرية التي تعيش فوق تراب معين، كذلك الذكريات والآمال والهموم والأحزان، والعادات والمصالح والقوانين او العادات واللغة والدين والتاريخ، الخ. وتحتل هذه الروابط المعنوية عند بعض المواطنين مكانة تعلو على ما هو موجود عند البعض الآخر. إن الأوطان الثابتة والراسخة هي تلك التي تتمتع بعمق وقوة هذه العوامل او العناصر المعنوية.
وبعد ان قدمنا هذا الشرح والإيضاح في ما يتعلق بالوطن، فإننا نكون بذلك عرفنا المدخل الى فهم وإدراك معنى اوطاننا، وهل يمكن ان نقبل في اوطاننا الفكرة السائدة في ألمانيا؟ وهل هذا المكان هو الذي نستطيع ان نؤسس او نبني عليه الفكر الوطني ومفهوم الوطن بخاصة "موضوع اللغة"؟
إن الإجابة عن هذا السؤال، وكما اظن، لا تحتاج الى تفكير كثير: فلا شك في ان الإجابة تكون بلا. فاللغة داخل المجتمع العثماني هي اقصر الروابط في ما بينه. إن حالنا لا يمكن ان يتقارن بالموقف الألماني لا اليوم ولا حتى قبل قرن من الزمان.
اننا اليوم نعيش في دولة مستقلة الدولة العثمانية وهذه الدولة تكونت من اقوام بشرية مختلفة، ومن بشر يتحدثون لغات مختلفة، وعلى ارضها هناك تاريخ، خلاله وطواله لم يتغير نظام الحاكم والسلطان، ومن هنا فإننا مضطرون الى بناء وترسيخ مفهوم الوطن ليس على اسس اللغة او الجنس والعرق، وإنما على اسس الدولة والتاريخ. ذلك ان وطننا ليس المكان الذي تسري فيه اللغة الفلانية او العلاّنية، بل هو المكان الذي تجلت وظهرت فيه فصول من التاريخ العثماني ذي الانتصارات والإخفاقات والتي توجد تحت ظل العلم العثماني وتحكم إدارة وحكم الدولة العثمانية. كذلك، فإن مواطنينا ليسوا هم اولئك الناس الذين يتحدثون هذه اللغة او تلك، بل هم اولئك الذين يوجدون في ظل حكم هذه الدولة، والذين تجمعوا تحت هذا العلم، وهم مكلفون العمل على رفعة هذه الدولة وهذا العلم.
فالوطنية بالنسبة إلينا هي حب هذا الوطن وخدمة هذا الوطن، وفي سبيل رفعة شأن هذا البلد وهذه الدولة والحفاظ عليها يجب ان نعمل ونضحي لأجل استمرار فتح هذه الصفحات التاريخية، وأن نزيل اي بقع تؤثر في نصاعة هذه الصفحات القديمة، علاوة على اضافة صفحات وفصول جديدة عالية لهذا الوطن.
الدولة العثمانية إسلامية
انني اعرف ان هناك فكراً آخر مخالفاً لهذا ينتشر في بعض الأوساط منذ مدة من الزمن، فالبعض يتحدث عن الاعتماد على رابطة اللغة والجنس فقط في هذا الصدد، حيث يدعون بأن الروابط الأخرى غير اللغة والعرق ليس لها القيمة نفسها، ويقولون: "إن العثمانيين عبارة عن مؤسسة او هيئة سياسية فقط، وليس هناك اي ارتباط معنوي ولا روح وطنية بين عناصر تلك الهيئة".
انني ايها السادة، لا أوافق ولا اشارك قطعياً في هذا الرأي والفكر، خصوصاً ان الأكثرية من العثمانيين توجد بينها رابطة دينية. هذه الرابطة لها اهمية كبيرة جداً، ومن الخطأ ان نعتبرها من دون قيمة بالنظر الى وجهة نظر العالم الغربي. ويجب عدم نسيان ان الإسلام ليس مجرد قواعد اخلاق مثل المسيحية، وإنما في الوقت نفسه هو دين اجتماعي. من هنا، فإن انباء او اخباراً مثل هذه ستكون اكثر تأثيراً من المسيحية بخصوص عقد مقارنة بين افكاره وحسياته واعتياداته. ثم علينا مراعاة، ان المقارنات او المشابهات تبدو متناقضة، وكلما توقفنا على موانعه ونواهيه، فإنه يزداد اهمية.
ان اهم الأسباب التي تجعل من الدين في اوروبا عاملاً لا يشكل معنوية قوية، من دون ادنى شك، هو كون كل الأوروبيين - على رغم مجموعة الفوارق الكبيرة الموجودة بينهم، وكل تلك المنافسات والخلافات الشديدة التي تولدت خلال الوقائع التاريخية والمصالح الحالية - مسيحيين. اما الإسلام فليس اليوم في مثل هذه الحال، اذ ان "الدولة العثمانية" هي عبارة عن دولة اسلامية عظيمة استطاعت الحفاظ على استقلالها. ومثل هذه الحال وهذا التفرد، بالطبع، ومن خلال العناصر او العوامل الإسلامية، ستزداد تقارباً في ما بينها. وستتخذ من وحدة الدين اهمية كبيرة. ولذا ف"الرابطة الدينية" احتلت اهمية كبيرة قبل ثلاثة او اربعة قرون، وقت كان العالم الإسلامي قوياً وله شوكة ووقت ان تم الاتصال في شكل قليل مع اوروبا، ومع تقدمنا الى الأمام فإنها ستحتل مركزاً اكثر اهمية.
هناك، ايضاً، مسألة عدم وجود فارق او تناقض بين التاريخ الإسلامي والتاريخ العثماني. بل على العكس، هناك اشتراك لافت للنظر والانتباه. ولو اعطي موقع منفصل عن السياسة للعناصر غير الإسلامية بين عوامل التاريخ العثماني، نجد انه لا يوجد اي انفصال بين العناصر غير المسلمة بينهم وبين المسلمين في شكل قطعي، فهؤلاء لم ينفذوا سياسة الحاكم والمحكوم لا من الناحية القانونية ولا من الناحية الفعلية على اي منهم، ولم يكن هناك ارتباط وثيق لمبدأ "ان الدين والشعب هما شيئ واحد". واليوم، فإن العثمانيين المسلمين يسيرون ويتعقبون الهدف والغاية المشتركة - عبر القرون - لأجدادهم وبني جنسهم والتي كانت موجودة حتى قبل تأسيس وتكوين الدولة العثمانية، وقد بذلوا الدماء والجهد المشترك، خلال العصور، للعمل من اجل الهدف نفسه وللسير في الطريق نفسه.
اي ان هناك كتلة اساسية من الروابط المعنوية القوية جداً للعثمانية، ولكن في الوقت الذي لم تكن هناك في ما بين العثمانيين تلك الروابط المعنوية وحسب، لم يكن هنالك ايضاً قصر او حصر للعناصر والعوامل الإسلامية. وإلى وقت قريب، كانت كل العناصر العثمانية اسلامية وغير اسلامية قد عايشت احداثاً ومخاطر مشتركة كبيرة جداً. وبشكل عام، تعرضت لضربات قاتلة مشتركة تحت ظروف سوء الحكم والإدارة. كل هذه المخاطر وتلك المهالك لم تكن تحت تأثير عنصر واحد، بل كانت هذه العناصر ضحية، في الحقيقة، للعنصر الذي يعتقد أنه هو الفاعل. والآن، فإن هذه العناصر او هذه العوامل هي كل الأعداء المشتركين اليوم، وللمخاطر المشتركة الموجودة، وهي في معظمها مربوطة او مترابطة في ما بينها امام المستقبل والأقدار الآتية، وهي في جلها مرتبطة بالمصالح الحقيقية في شكل تام. وعلى قدر ما كانت هناك اصلاحات جادة في المعاملات والشؤون العامة، وعلى قدر ما قام المفكرون بتنفيذ دورهم في شكل واضح وبحمية، فإن الأفكار والمتلقيات الخاطئة الموجودة في هذا الخصوص ستزول. وكلما امعنّا النظر في العوامل المشتركة للأحداث والخطوب السابقة، والمصالح والمنافع الحالية، والمخاطر المحدقة فإن الأميركيين من الوضوح والبديهية في شكل بارز وواضح.
ان الشيء المؤكد، هو وجود مكان مشترك من الأحاسيس والمشاعر في ما بين العثمانيين وخصوصاً الطبقة العامة منهم، وهناك ايضاً لدى الغالبية، ولا أقول الكل، "الروح الشرقية" - على رغم فوارق اللغة وحتى الدين - و"السمة الشرقية"، حيث نجد الكثير من ضروب الأمثلة والحكايات الأسطورية والنكات والمضحكات - في اللغات المختلفة - مألوفة ومتداولة بين كل العثمانيين. ذلك ان هناك خصوصية في الموسيقى التي تطرب وتسعد ارواحهم، لدرجة ان الأمر موجود ايضاً في الألحان والنغمات والمواويل التي تعمل في لغات مختلفة وتقدم لأعمار مختلفة.
ومن الخطأ القول إن "الفكرة العثمانية هي وهم، ولا يمكن ان يكون هناك وطن عثماني" تجاه كل هذه الظروف والعوامل. وبناء على ملاحظة بهذا الشكل، فإنه يكون خطأ أكبر حين يقال "يجب ان نهتم ونشغل انفسنا بالوطن، وأن نولي كل الاهتمام للقومية فقط، ويجب العمل لأجل الفكرة التركية". إن الأفكار القومية والوطنية الموجودة في بلاد دول تتكون من شعوب وأمم مختلفة مثلنا، لا يحدث انسجام وتوافق في حب الوطن، فيما بين الناس. ومن هنا، فإن حب الوطن وحب الشعب يجب ان يكون مترافقاً ومقيداً بالحوادث المشتركة سواء في الأمن والسلامة او في الخطوب.
ان الذي لا يولي الاهتمام ويمعن النظر في المصالح والمنافع المشتركة للوطن يمثل نوعاً من القومية التي تتحرك في اطار مخالف لسلامة وأمن ومصالح الوطن المشتركة... وأياً كان نوع القومية وحب الوطن - سواء أكان الشخص ارمنياً، او عربياً، او حتى تركياً - فإنه يرتكب جرماً وخطأ كبيراً في حق الوطن.
لا شك في اننا ايضاً نعتبر موضوع حب الوطن والقومية امراً جائزاً، وضرورياً ولكن، تحت شرط الحب الزائد للوطن العثماني.
* أستاذ التاريخ العربي الحديث في جامعة البلمند - لبنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.