على رغم ان عمر السينما كان تجاوز السنوات وبدأ هذا الفن في فرنسا كما في الولاياتالمتحدة وغيرها، يجتذب كبار فناني المسرح وبعض الكتّاب والفنيين الآخرين، فإن النظرة الى السينما كانت لا تزال نظرة دونية. اذ ان الفنانين الحقيقيين انفسهم، حين كان يقيّض للواحد منهم ان يخوض مغامرة سينمائية، كان يعتبر الأمر مجرد تزجية للوقف وفترة استراحة ساذجة، وسط مشاغله الحقيقية في ميادين الفن الأخرى. لكن الفيلم الذي حققه المخرجان الفرنسيان لي بارجي وكالميت معاً، في العام 1908 ولم يزد طول شريطه على ثلاثمئة متر 15 دقيقة عرض، قلب المعادلات، تماماً مثلما كان فعل فيلم "رحلة الى القمر" للفرنسي - ايضاً جورج ميلياس قبل ذلك بستة اعوام، اذ برهن على ان السينما يمكن لها ان تكون فناً مستقلاً عن المسرح وعن تصوير الحياة اليومية العادية. اما الناحية التي قلب بها فيلم لي بارجي وكالميت اولهما في ادارته للممثلين والثاني في ادارته للكاميرا، فكانت في تحويله الشريط السينمائي الى عمل فني حقيقي. وهكذا قدر لفيلم "اغتيال الدوق دو غيز" ان يكون اولاً فيلماً ينتمي الى سينما "الفن والتجربة" في تاريخ الفن السابع. ويكفينا للبرهان ان نذكر ان كاتب السيناريو كان هنري لافيدان، عضو الأكاديمية الفرنسية في ذلك الحين، وأن ممثليه الرئيسيين، مثل ألبير لامبر وغابريال روبين، كانوا من كبار فناني "الكوميدي فرانسيز"، ناهيك عن أن الموسيقى التي وضعت لمصاحبة عرض الفيلم كانت من تأليف الموسيقي الفرنسي الكبير كاميل سان - سانس، ما جعل هذا الفنان يدخل تاريخ فن السينما باعتباره اول موسيقي يؤلف موسيقى لفيلم سينمائي، ونعرف ان مساهمة سان - سانس في "اغتيال الدوق دو غيز" كانت هي ما شجع زملاء كبار له مثل هنري فيفييه وداريوس ميلو وآرثر هونيغر، على ارتياد الفن نفسه، ما جعل للموسيقى الحقيقية حصة في نهضة السينما. إذاً، كان عملاً فنياً حقيقياً ذلك الفيلم الذي جمع مبدعين من ذلك الطراز، وإن كانت عودتنا اليوم الى مشاهدة ذلك الشريط التاريخي، ستجعلنا نبتسم لسذاجته، ولأن السينما التاريخية تجاوزته بشكل هائل خلال القرن التالي من الزمن. غير ان ابتسامتنا هذه لن يكون من شأنها ان تقلل من اهمية "اغتيال الدوق دو غيز"، الذي قال عنه، في العام 1922، غريفيث، احد مؤسسي السينما الأميركية بكل جدية حين سئل عن اهم ذكرياته السينمائية: "افضل ذكرياتي في السينما؟ حسناً، انها المشاعر التي احدثتها لدي منذ دزينة من السنين مشاهدتي لفيلم رائع هو "اغتيال الدوق دو غيز". لقد كان الأمر بالنسبة إلي اكتشافاً ما بعده اكتشاف. آه، لو ان الفرنسيين تابعوا في ذلك الحين انتاج افلام مشابهة له آخذين، طبعاً، في الاعتبار المناهج والأساليب التقنية والفنية الجديدة فإن السينما الفرنسية كان من شأنها ان تكون اليوم اول وأهم سينما في العالم". تدور احداث فيلم "اغتيال الدوق دو غيز" في فرنسا في العام 1588 في ايام حكم الملك هنري الثالث، الذي وجد لزاماً عليه ذات يوم ان يتخلص من خصم عنيف له، ومزعج في منافسته على الحكم هو هنري دي لورين، المعروف بالدوق دو غيز. فلا يكون منه إلا ان يدعوه الى زيارته في قصره العامر في مدينة بلوا، جنوبباريس. ويقبل الدوق الدعوة، على رغم توسلات عشيقته المركيزة نورموتييه، التي كانت تعلم ان ثمة في الأفق مأساة تدبر في شكل خفي. ان المركيزة، وفي مشهد اساسي في الفيلم، لا تريد لعشيقها ان يذهب الى قصر الملك متوجسة من تلك الزيارة شراً. بيد ان الدوق لا يعبأ بتوسلات حبيبته، فهو اكثر شجاعة من ان يستنكف عن زيارة الملك جبناً. كما انه ليس من شيمة امير أو دوق ان يتخلف عن زيارة الملك، ان هو دعاه الى ذلك. وهكذا ينتهي الأمر بالدوق الى تلبية الدعوة، وهو واثق من ان له من الهيبة والسلطة والقوة ما يجعله في منجى من مؤامرة تحاك ضده. بل انه، وفي زاوية خفية من نفسه كان يرى ان التحدي الذي يمثله قبوله زيارة الملك، في مثل تلك الظروف، يضفي على قوته قوة، ما يعزز من مكانته في حمأة المنافسة مع الملك. وهناك في القصر، وتحديداً في القاعة المسماة "الديوان العتيق" يخيب فأل الدوق المتهور، اذ ان المؤامرة المحاكة ضد تنفذ بحذافيرها. وفيما يكون الملك مختبئاً خلف ستائر القاعة يراقب ما يحدث، تقوم مجموعة من الحراس التابعين له، بضرب الدوق بالخناجر حتى يلفظ انفاسه. وبعدما يتيقن الكل من ذلك، يخرج من بين الستائر طالباً من رجاله ان يحرقوا جثة الدوق "لأنه يتبدى لي، في موته، اكبر منه حتى في حياته". وهكذا تنتهي فصول حياة الدوق دو غيز، فيما المركيزة غارقة في حزنها ودموعها. واضح ان اهمية "اغتيال الدوق دو غيز" لا تنبع من موضوعه البسيط هذا، والذي كان في ذلك الحين الخبز اليومي للأعمال المسرحية الشعبية الناجحة، بل تنبع من كونه دل السينما الى طريق جديدة تسلكها للحصول على مواضيع اكثر جدية مما كانت تقدم في ذلك الحين. إذ حتى ذلك العام كانت الميلودرامات المبالغة والأفلام الهزلية التهريجية التي كان كبار النقاد يطلقون عليها، على خطى لو روكا وبيلا بالاش صفة "الترفيه عن الحمقى" تغزو شاشات السينما المستقطبة المتفرجين بعشرات الملايين. وفي ظل ذلك المناخ اتى يومها منتجان حصيفان هما الأخوان لافيت وأسسا شركة "افلام الفن" التي اخذت على عاتقها مهمة النهوض بفن السينما. وهذان الاخوان كانا هما منتجي فيلم "اغتيال الدوق دو غيز" وصاحبي فكرة الاستعانة بفنانين كبار حقيقيين للعمل في نتاجات الفن السابع. ولقد كانت التجربة ناجحة حقاً في ذلك الحين. إذ بعدما حقق "اغتيال الدوق دو غيز" من النجاح ما لم يكن متوقعاً، راح الفنانون الفرنسيون الآخرون يخوضون التجربة، وهكذا، مثلاً، رأينا خلال السنوات التالية، فنانين من طرز لويس نالباس يحققون افلاماً جادة، كما رأينا سارة برنار سيدة المسرح الكبيرة، تخوض تجربة العمل السينمائي، في فيلم مقتبس عن "غادة الكاميليا"، كما شاهدنا مثقفين من طينة آبيل غانس صاحب "نابوليون" لاحقاً يتجهون الى العمل في الفن السابع. وهذا ما جعل السينمائي والناقد الفرنسي لوي ديلوك يكتب في ذلك الحين قائلاً: "انه لمن دواعي فخر فرنسا، ان يكون الفنانون الفرنسيون قد سبقوا فناني الأمم الأخرى في إدراك ان السينما ستكون فناً حقيقياً". ولعل افضل ما يمكننا ان نختم به هذا الكلام عن "الفيلم الفني الأول في تاريخ الفن السابع"، هو ما كتبه الناقد فيكتوران جاسيه في العام 1911 محللاً: "ان كل القواعد والأسس التي كنا رصدنا وجودها من قبل تبدو لنا الآن غير ذات جدوى. فاليوم في فيلم "اغتيال الدوق دو غيز" ها نحن امام ممثلين يمثلون من دون ان يتراكضوا هنا وهناك. امام ممثلين يقفون في اماكنهم امام عدسة الكاميرا تاركين للتكثيف الدرامي المتصاعد مهمة الحصول على التأثير المطلوب. وإن كان في إمكاننا ان نلتقط اخطاء فنية ومهنية هنا او هنالك، فإن هذا لن يمنعنا من ان نقول ان المخرج لي بارجي قد رسم الشخصية الرئيسية اي شخصية الدوق المغتال نفسه عبر تفاصيل اضافية ومتميزة. ولقد أتى هذا كله تجديداً، يستند الى مبادئ فنية جديدة، والى اسلوب يصلح تماماً لبناء مستقبل حقيقي لفن التمثيل وفن الإخراج السينمائيين. والحال انه، في استثناء بعض القواعد الفنية القليلة، لم يعد ثمة وجود ملحوظ لأي أثر من آثار المدرسة القديمة. لقد هزمت المبادئ العتيقة تماماً... ما فتح الأعين على المدرسة الأميركية، كما فتح عيون هذه المدرسة نفسها". بقي ان نذكر ان لي بارجي اختفى تماماً بعد ذلك، اذ لم يعد له ذكر في تاريخ السينما الفرنسية، اما شريكه في الإخراج اندريه كالميت، فإنه، وإن ظل حياً حتى العام 1942، لم يذكر بعد ذلك إلا خلال سنوات قليلة اشتغل خلالها مع شركة "افلام الفن" نفسها وحقق ثلاثة افلام يمكن ذكرها هي "عودة اوليس" 1908 و"ماكبث" 1909 و"مدام سان - جين" 1911.