الكتاب قديم، صدر في نهاية عام 1985 في بوينس آيرس. كان خورخيه فرانسيسكو اسادورو لويس بورخيس قد بلغ السادسة والثمانين من عمره - ولد في 24 آب اغسطس 1899 في منزل اجداده من جهة ابيه في الدار المرقمة 840 في شارع تكومان - لكنه كان ما زال يتمتع بهبة صفاء الشيخوخة، على رغم عماه التام. شعور بالغبطة يملؤه وهو يتحدث الى صديقه الشاب اوزفالدو فيراري بايقاع حديث عادي، يومي بين صديقين. الحوار يصنع نفسه بايقاع العبارات ونهايات الجمل، والصمت الذي يضيف معنى آخر لما هو بين الكلام. مراراً، وعبر فصول الكتاب، يكتفي بورخيس ب: نعم صغيرة، خجلة احياناً، ومتواضعة في غالبية الاحيان تاركاً صديقه الشاب يكمل افكاره ويضيف او يذكره. بعد اكثر من سبعة عشر عاماً على هذه الحوارات، وغياب بورخيس النهائى في 1986، فإن مواضيعها ونكهتها لا تزال معاصرة، مشوقة. القدم الذي فيها زمني وليس تاريخياً. نوع من العتق النبيل الذي يمر على الاشياء الجوهرية، فيعطيها معنى اكثر قرباً منا وطعماً اكثر عذوبة ومغزى يعلمنا ان الزمن احياناً شيء افتراضي. هذا الحوار الذي نترجم هنا جزءاً منه هو مقطع صغير جداً من ثلاثية صدرت منذ اكثر من عقد باللغة الفرنسية. الصداقة التي جمعت "كاتب الحكايات الفنتازية" مع مواطنه الشاعر والناقد الارجنتيني الشاب اوزفالدو فيراري اثمرت عن قدر شاء الاثنان تقاسمه مع بشر عديدين فكانت حوارات عدة معلنة. الصداقة والفردية شيئان ينبغي توافرهما لعقد الحوار وهما من قدرات الارجنتينيين، يكتب فيراري في مقدمته: امام المعرفة الهائلة لبورخيس، وجهت الحوارات وجهة ادبية لأنني اعرف ما هو احب اليه، الادب العالمي. ان رؤية بورخيس وصلت الى المستوى الباسق لحياته الراهنة المملوءة بما هو اكثر جدة وأكثر شغفاً. الحوارات الاولى اعدت لراديو بوينس ايرس اوائل الثمانينات، ثم في ما بعد كانت حوارات اخرى حملت عنوان "الحوارات الاخيرة" نشرتها صحيفة الزمان الارجنتيني TEMPIO ARGENTINO اسبوعياً، ثم الحوارات الجديدة التي نقتص منها جلسة صغيرة هنا. في هذه الحوارات يبدو بورخيس محاوراً فذاً لأن ذاكرته تبدو بلا حدود. ذاكرة اعمى، كما يلوح بذلك دائماً. الادب العالمي حديقته التي يعرف نباتاتها: اسماؤها بلغات مختلفة يتقنها، مواطنها الاصلية، ثمارها، ما قيل عنها في الموسوعات والكتب المتخصصة... انه يتحدث عن مواضيع كثيرة ومتنوعة: سقراط، كونراد، ملفيل، هنري جيمس، فلوبير، الولاياتالمتحدة، عبادة الكتاب، الادب الواقعي والادب الفنتازي، البوذية، شعر الرعاة الارجنتينين، الحب، الذاكرة، التاريخ... في حواراته، كما في محاضراته، تبدو طفولته التي لم يتخل عنها، في صورة صمت الطفل وموافقته على ما يقوله الكبار، في دعابته التي ترافق عباراته، في تواضعه وهو يتحدث عن نفسه ونسيانه المزعوم - يتذكر عدد النسخ التي وقعها من الجزء الاول من الحوارات في حفل التوقيع الاول: 181 نسخة - في مشاكسته لمعاصريه بغمزات يفهمها الجميع، في انتقاده الهادئ لتقوقع بعض الثقافات وسطوتها، في اعترافه بالجميل للقدماء ولجمهور قرائه ومستمعيه. انه يقول: "الانسان الشاب يأمل، ربما، الكثير من حياته، ثم وهو يركز جهده على الاوهام يشعر بالغبن. العجوز، مثلي، يشعر قبل كل شيء بالاعتراف بالجميل. في حالي في شكل خاص، بعيداً من حال العمى التي هي حادث جسدي، حيث استقبل في شكل لائق، بل باذخ. الناس تستقبلني في بلدان مختلفة وهناك دائماً ناس حاضرون يعتزون بي. يحدث احياناً ان يوقفني احدهم في الطريق ويحدثني عما كتبت. اجد هذا مدهشاً وأنا في الخامسة والثمانين، تقريباً في السادسة والثمانين. اشعر بغبطة لهذا التفهم العام". اوزفالدو فيراري: بورخيس، في عبارة - مفتاح قلت بأن كل شاعر ذكي هو ناثر ممتاز. خورخيه لويس بورخيس: انطلقت من ستيفنسون، الذي يؤكد بأن النثر هو الشكل الاكثر صعوبة من اشكال الشعر. الدليل على ذلك، ان بعض الآداب لم تصل ابداً الى النثر. الادب الانكلو - سكسوني، مثلاً، انتج خلال خمسة قرون شعراً رائعاً في المراثي والملاحم لكن النثر الذي تركه لنا يتميز بفقر يدعو للرثاء. هذا ما ينسجم مع رأي مالارميه، الذي يصرح، بأننا نشعرن حالما ننقح قليلاً ما نكتبه. فيراري: بالنسبة اليك، العكس ليس هو الصحيح: ناثر ذكي ليس شاعراً ممتازاً بالضرورة. بورخيس: النثر لا يزيح الشعر دائماً. ذلك اني افترض انه لكتابة نثر في حقبة ملائمة، ينبغي امتلاك المقدرة على الاصغاء، من دون الاذن المصغية فإنه لا يمكننا ان نشعرن" خصوصاً حين يتعلق الامر بالشعر الحر، الذي يستوجب اجتراح ايقاعات مستمرة. فيراري: لكنك تستخلص في نهاية الموضوع بالقول، بأنه على رغم كل شيء، فالنثر الممتاز لا علاقة له بالشعراء حاملي الاسرار الذين يتجاوزون حدود الذكاء. بورخيس "ضاحكاً": انا قلت هذا؟ فيراري: نعم. بورخيس: حسناً، اني متفق مع هذه العبارة اذا كنت قد قلتها او اذا كانت هدية تهبها لي في هذه اللحظة. فيراري: فكرتك حول ذكاء الشاعر مطبقة على النثر تهمني في شكل خاص، حيث ان المقالات الاكثر سحراً في ما قرأت كان كتابها من الشعراء. القصص القصيرة ايضاً وليس الروايات. بورخيس: الرواية، كما يبدو، تتطلب ان يكون الراوي غير منظور او خفياً. أليس كذلك؟ الواقع في رواية ممتازة يكمن في الشخصيات والى حد ما في الروائي نفسه. لم احاول ابداً كتابة روايات وأعتقد بأنني لن افعل ذلك، حيث ان الروائي الجيد ينبغي ان يكون قارئ روايات جيداً بينما اذا استثنينا كونراد وديكنز والجزء الثاني من دون كيشوت، فأنا لم اقرأ روايات اخرى الا بمشقة. يلزمني نوع من التدريب على قراءة الروايات. انني آسف لذلك، لكن للقراءة هدفاً ولا اقول متعة، لكن على الاقل، ينبغي ان يكون هناك انفعال ما عبر القراءة. فيراري: ذكاء الشعراء، كما يبدو، جعل لكي ينظر للواقع بطريقة مخالفة للعام. هكذا فهو يختلف عن الذكاء الفلسفي او العلمي. بورخيس: يختلف تماماً. مثلاً، اعتقد ان كل ما يحدث لي يشكل نوعاً من طينة صناعية: قابلة للتشكيل، في ما يخص عملي الادبي، لكن ليس من الضرورة لي البحث في هذا عن كلمات - مرايا للواقع. هذا الواقع اعيد نسجه عبر تغييرات ندعوها قصة، حكاية، سيرة وأيضاً قصيدة. بالتأكيد ان كل ما اكتبه هو سيرة ذاتية لكن في شكل غير مباشر، مكتوبة بطريقة ما تجعلها مؤثرة. الاستعارة، اذا وافقنا على ذلك، هي ان نقول الاشياء بطريقة ملتوية. البيت الشعري ايضاً يخضع لذات الامر، اذ ان ايقاعه لا يتفق تماماً مع المحكي اليومي من الكلمات. فيراري: ذكاء الشاعر، كما يبدو، له علاقة مع الحدس اكثر مما مع المنطق الشكلاني. لا تنسى بأن بوذية الزن تلح على ضرورة عدم الانصياع الى المنطق قبل الانفتاح على الحدس. بورخيس: نعرف بأن الحدس في غاية الجوهرية، وفي كل الاحوال. الناس كانوا طيبين معي فيراري: هذا في الشرق، ذلك انه في الغرب لم نكتشف بعد اهمية الحدس، وما زلنا نفكر بأن المنطق وحده قادر على المضي بنا الى الحقيقة، على رغم ذلك، فإنه بالحدس، في شكل خاص، يرتبط الشعراء والصوفيون ايضاً، او الشعراء الصوفيون حيث لدينا امثلة كثيرة. بورخيس: اعتقد، على رغم ذلك، بأن الحدس يمارس تأثيره فينا في شكل دائم. هكذا، بالنسبة الي، فإن تنقل الافكار ليس بظاهرة نادرة بل مستمرة. انني استلم في شكل مستمر رسائل ويبدو لي انني ابعث رسائل اخرى بدوري. عبر هذا التبادل يبزغ ما ندعوه بالصداقة، الحب، وأيضاً العداوة، الكراهية" كل هذا لا يولد عبر ما نقول بل عبر ما نشعر به. فيراري: على رغم هذا، فأنت قد اعترفت يوماً بأنك لم تعرف مشاعر الكراهية في حياتك. بورخيس: قد اخالف اكسول سولار الذي صرح بأن الغضب والكراهية نوعان من صمام امان لضمان الانفعال. لكن في حالتي، لأقولها بصراحة، ان اؤذيت - في الحقيقة فإن الناس كانوا طيبين معي دائماً ولم يؤذوني يوماً عن قصد - فإنني سأشعر بالشفقة. والشفقة ليست بالضرورة مقنعة" سبينوزا كان يقول بأن الاعتراف بالذنب غير مقنع كذلك، ذلك انه نوع من الشفقة. كان يفكر "الفعل غير المناسب مدان اخلاقياً لكن الاعتراف بممارسة هذا الفعل، يعني اضافة خطيئة الشفقة الى خطيئة الفعل" بالنسبة الى سبينوزا فإن على الانسان البحث اولاً عن الطمأنينة. واذا كان يفكر بخطاياه فإنه سيغرق في دوامة القلق وسيشارك في صنع بؤسه الخاص. ما يتعلق بي فإن النسيان في غاية السهولة. خصوصاً حين يتعلق الامر بذاكرتي - كما يقول برغسون عن الذاكرة في شكل عام - فهي انتقائية: اذا فكرت في سنوات حياتي الطويلة فأنا لن اتذكر سوى احداث سعيدة. مثلاً، ان عمليات جراحية كثيرة اجريت لي في عيني، ولهذا فقد قضيت اوقاتاً كثيرة في المصحات الطبية. حسناً، كل هذا نسيته. حين افكر بكل هذه الايام، كل ليالي المصحات فإنني اختزلها في لحظة واحدة: ابدية صغيرة تعيسة. على رغم هذا، فإن الامر يتعلق بأيام طويلة وفي شكل خاص بليال طويلة تعاقبت، من دون شك، بتفاصيلها الصغيرة. كل هذا مضى في النسيان. فيراري: مع تقدم العمر ندرك الطمأنينة. اقتنعت بالعمى بورخيس: نعم. قبل امس كتبت سوناتة - لن استطيع قراءتها لك فعلي ان انصعها اكثر - موضوعها يطور فكرة السنوات الاخيرة، حيث اقتنعت بالعمى، التي هي ربما سنواتي الافضل. فيراري: ... نعم. بورخيس: عمى مقتنع به لا يدعو للشكوى وهو غير مؤلم. اقتنعت كما نقتنع بالشيخوخة، حين لا تكون لدينا قناعات في تحمل الحياة فإن العمى يبدو من عوادي الدهر. اسمع: اشار احدهم على برنارد شو بأن لا يمضي بالأمور على هذا النحو فذلك تهور، رد عليه "لا بأس عليك، ان تلد ذلك هو التهور والاستمرار في الحياة هو عين التهور ايضاً" كل شيء تهور، لكن تلك هي المغامرة. ... فيراري: شاعر آخر، ارجنتيني هذه المرة، البرتو جيري، قال لي بأن موضوع "ان تعرف نفسك بنفسك" بالنسبة اليه هو الحقيقة الدائمة عند الانسان. وان الشعر يمكن ان يقود القارئ لمعرفة افضل بنفسه... بورخيس: والت ويتمان، بعد ان قرأ سيرة احد المشاهير مضى مفكراً "هذا اذاً ما ندعوه حياة انسان؟ تواريخ؟ اسماء اعلام؟ هذا ما سيكتب عني بعد ان اموت؟". وأضاف بين قوسين ليعطي شحنة لنصه - بأنه لا يعرف أي شيء عن نفسه أو بالكاد لكن، ليعرف أكثر فإنه يكتب قصائده - فيكتور هيغو لجأ الى مجاز اسلوبي آخر ليعلن "انني انسان خفي عن نفسي" "الله وحده يعرف اسمي" الفكرة، بالطبع، هي ان الاسم الذي لا يعرف به الا الله وحده يتضمن الحقيقة. فيراري: والاسم خفي. بورخيس: نعم، الاسم خفي. فيراري: معروف ان الشاعر اذا اكتشف نفسه وعرفها اكثر خلال الكتابة فإنه سيساعد القارئ على ايقاظ الحدس ومعرفة نفسه بدوره. بورخيس: ذلك ان القارئ، بطريقته، هو الشاعر. كتبت منذ زمن طويل بأننا حين نقرأ شكسبير فإننا نصبح شكسبير، موقتاً على الاقل. فيراري: انها فكرة تحبذها. بورخيس: نعم. انها قديمة وحقيقية كما اعتقد. وفي حالات فإننا نستطيع اطالة امد شكسبير، حيث ان نص شكسبير قد اكتسب ثراء، ليس من قبل من علقوا عليه فقط، بل ايضاً عبر التاريخ، عبر التجارب التي نكررها ونسميها تاريخاً، أليس كذلك؟