استدعت أجمل صورها. قارنت بين تسريحات الشعر المختلفة. اختارت أفضلها. وفي صباح اليوم الموعود نقدت مصفف الشعر مبلغاً اضافياً ليراعي خصلاتها. المناسبة لا تتحمل اي خطأ، ولو في ثنية شعر. تجاوزت قيود التقشف المنزلي. قالت ان الاستثناء مقبول لمرة واحدة. وهذه المرة تستحق استثناءات العالم كله. بالامكان تعويض المصروف المهدور، بعصر نفقات اخرى. لم تشح بنظرها عن بطاقات اسعار ملابس الاطفال التي كانت تعتبرها عادة بعيدة عن متناول اليد. اكتسبت ثقة مفاجئة في التعاطي مع البائعات. انتقت آخر زي من أفضل الماركات. اولادها ثلاثة. والثلاثة ارتدوا ما يناسب حدث العمر. في الساعة المحددة توجهوا جميعاً الى المكان المقصود. الافكار تتسابق بسرعة غير معهودة. تختلط ببعضها. تتزاحم داخل رأس له لسان واحد واذنان تستمعان الى أسئلة الاطفال. غريب أمر هؤلاء الاطفال يدهشهم الطريق والابنية والمارة. ينسون المناسبة، يغيبون عن هيبتها. امر معيب يجب ان يحفظوا بعض الكلمات اللائقة، ان يضفوا بريق شغف على أعينهم. بالهم مشغول بالزحمة. كيف يجرأون على التفكير العادي. بال السيدة في مكان آخر وعلى ايقاع مختلف. في الردهة الفسيحة تدلت الشاشات من الاسقف، لا تنطق، لكن لأرقامها دلالة أبلغ من الكلام. تحلقوا حولها... جاء آخرون نظروا وذهبوا. وهي لا تزال متدلية كغيمة لا تمطر. تبدل أرقامها فقط. شرهة وجائعة الى نظرات المتحلقين، لا هي تشبع، ولا هم يكتفون. احد الاطفال الثلاثة جذبه المصعد الكهربائي وقفز اليه، صعد الى الطبقة الأعلى. صرخت امه. كأنها فقدته. هو كان على بعد أمتار قليلة عنها. ابتعاده الطفولي لا يستحق الصرخة. ابنتها اخطأت في قضم قطعة الحلوى، تناثرت بقاياها على فمها. همت بان تمسحها بكم القميص مثلما تفعل عادة. جمّدت يدها منتصف الطريق في موازاة كتفها، قرب رقبتها، بصرخة أطلقتها الام المذعورة. لا توسخي القميص. تنقل الأم عينيها بين الحضور وعددهم يزداد فجأة وينقص بعد لحظة. خالت ان الوجوه واحدة. لم تعد تميز بينها. شرعت تبحث عن الفوارق. هذا نحيل وذلك سمين. هذا أشقر الشعر يضع نظارات شمسية رغم الاضاءة الخافتة، يأتون الى الشاشة ويذهبون مسرعين. الى جانبها رجل حائر مثلها. يدخن باستمرار، وينفث في اتجاه واحد. دخانه صار جامداً لم يعد يتبدد في الهواء. خافت إن أصبح صلباً وقع على رأسها ورأسه. ويهشم الرأسين. ابتعدت قليلاً. لكن عينيها بقيتا مسمرتين الى الدخان. تذكرت الشاشة، عادت اليها تحدق فيها. شعرت براحة طارئة. تذكرت سبب وجودها. وقوفها هنا يستدعي ان تنظر الى الشاشة فقط وليس الى شيء آخر. أحد الاطفال ملَّ التحديق. والردهة فسيحة. بلاطها مصقول يغري بالتزحلق والركض. رأى عشرات الاطفال يركضون. كانوا مثله كاملي الأناقة. والردهة مخططة. كمضامر السباقات. لكل طفل متسابق خطه. ركض لحق به أخوه، وآخرون. من دون اسماء. ولا سابق معرفة. الوقت اللعين يسمح بصداقات سريعة. الأم ساءها ان يلهو أطفالها. يجب ان يكونوا في مكان واحد، وأعينهم مسمّرة الى مكان واحد. اكتسبت أدق التفاصيل أهمية خاصة. خافت على ملابسهم الا تبدو جديدة، وخافت ان تتبدل تسريحة الشعر. يجب ان يبقى كل شيء نضراً، الوقت لا يرحم. تسلل التعب الى تحت العيون. والجبين إحمرّ من كثرة الفرك واليد المسندة اليها. ثرثرة جاريها في شؤون اعمالهما المتباعدة أزعجتها. كلاهما يتكلم عن شيء مختلف لم يكونا يصغيان. ينهمر الكلام من شفاههما من دون روابط. الوقوف تحت الشاشة صعب، والكلام وحده يأنسنه ولو لم يصغ أحد. حركة الشفتين، تعوض جمود الساقين. قلّ عدد الحضور في الردهة، فازداد حضور الشاشات، بدا عددها أكبر. ألوان خطوطها ومربعاتها ازدادت مساحة وسطعت اكثر، كانت تحاول الخروج من مكانها تريد ان تتحرر. قرفت من بلاهتها. الطفلة صارت تبكي تأخر الوقت، ضجرت، تريد العودة الى المنزل. الام ازداد توترها، اللحظة اقتربت. للمرة الأولى في حياتها تضرب ابنتها. اعصابها لا تحتمل ان تكون منتظرة وابنتها تبكي تريد العودة الى المنزل. الأفضل ان تبكي من الألم. من المعاملة القاسية الأولى. رجال الأمن حولها اعتادوا مشهد الاهل يضربون أطفالهم. اعتادوا قلق الانتظار. وتوتر المنتظرين. تجردوا من احاسيسهم. لكل منتظر قصة وغصة. الناس بالنسبة اليهم أرقام شاشات متدلية. مروا بالأم وطفلتها كأنهما لم تكونا واقفتين. هي أحست بأنهم مروا عبرها، شعرت بلامبالاتهم. ذعرت من ان تصبح غير مرئية كيف سيراها هو عندما يخرج من باب المسافرين القادمين. جهشت بالبكاء. العناق الذي كاد ألا ينتهي والقبل المتواصلة وشمشمة الاطفال، لم تعوّض ذلك الاحساس بأنها غير مرئية. يتكرر المشهد أعلاه يومياً مئات المرات في المطارات العربية. هناك دائماً عائلة ما، أهل أو زوجة وأطفال ينتظرون قريباً أو زوجاً أوابناً عائداً الى أوطان ضاقت بابنائها لألف سبب وسبب. وهذه الهجرة أو الهجرات ميسرة. فكيف بمهاجري "قوارب الموت". [email protected]