في 1/8/2002 أصدر المشروع اللبناني تعديلاً على قانون التحكيم اللبناني يمثل منعطفاً مهماً في موضوع لجوء الدولة الى التحكيم، ولا سيما التحكيم الدولي. وتدخل المشرع جاء بعد حكمين صادرين عن مجلس شورى الدولة اللبناني في موضوع شركتي الهاتف الخليوي: "سليس" و"ليبانسيل" بتاريخ 17/7/2001 وفي الحكمين ابطل مجلس الشورى الشرط التحكيمي الوارد في عقدي الهاتف الخليوي واعتبر انه لا يمكن نزع اختصاص مجلس الشورى الذي هو القضاء المختص في العقود الادارية. والمعروف ان التشريع اللبناني متأثر ليس بالقانون الفرنسي وحده بل بالفقه والاجتهاد الفرنسيين أيضاً. والتعديل الذي ادخله المشرع، جاء ليبدد التساؤلات التي ارتسمت في اجواء المستثمرين عن الضمانات القانونية للعقود التي يبرمونها لا سيما وان الشرط التحكيمي أصبح ضمانة مهمة للاستثمارات، ولكن التعديل الجديد جاء يؤكد ايضاً ان مجلس شورى الدولة حين اصدر حكميه اللذين ابطلا الشرط التحكيمي في عقدي الخليوي، فانما كان يطبق القانون الذي كان بحاجة لتعديل. اولاً: المشكلة قبل تعديل قانون التحكيم اللبناني 1- هل يمكن نزع اختصاص القضاء الاداري؟ الموضوع طرح في فرنسا قضية "يوروديزني" وفي القانون المصري قبل لبنان. لقد عالج التعديل الذي ادخله المشرع على قانون التحكيم اللبناني الموضوع الاساسي والذي هو: التحكيم في العقود الادارية ولجوء الدولة للتحكيم في العقود الادارية! والى جانب ذلك عالج نقاطاً بعضها سلبي واكثرها ايجابي. ولكي يتضح معنى التعديل الذي طرأ والذي يعكس ازمة التحكيم في الانظمة القانونية التي استوحت القانون الفرنسي، الذي يفرق بين القضاء العدلي والقضاء الاداري والذي لا يقبل قضاؤه الاداري نزع اختصاصه الى التحكيم، وقد سبق ان سلطت اضواء على هذه المشكلة عندما طرح توقيع عقد "يورو ديزني" في فرنسا فعارض مجلس الشورى الفرنسي ادراج بند تحكيمي في العقد، فأصدرت الحكومة الفرنسية مرسوماً تشريعياً سمي قانون 19 آب اغسطس 1986 حول "المحلية الجماعية" وهو في الحقيقة قانون على قياس مشروع "يورو ديزني لاند" وهو قانون يحل مشكلة عقد "يورو ديزني" ولا يحل مشكلة نزع اختصاص القضاء الاداري واحالته الى التحكيم في العقود الادارية! ولكي يتضح معنى التعديل الذي ادخل على قانون التحكيم اللبناني لا بد من القاء نظرة سريعة على المشكلة التي طرحت في مصر وعلى قراري مجلس شورى الدولة اللبناني. 2- مصر سبقت لبنان الى مثل هذا التعديل ولكن قبل ذلك لا بد من ابداء ملاحظة وهي ان الانظمة القانونية المتشابهة "الصحة" فيها سريعة العدوى ... وهي متأثرة بعضها ببعض بحيث ان مشكلة الدولة في التحكيم التي انفجرت في عقد "يورو ديزني" في فرنسا، عادت فانفجرت ايضاً في مصر قبل ان تصب في لبنان. فالمشرع المصري اصدر قانوناً جديداً للتحكيم عام 1994 ولكن مجلس الشورى مجلس الدولة المصري أخذ يبطل شروط التحكيم الواردة في العقود الادارية لأنه يعتبر ان الاتفاق على التحكيم غير جائز في العقود الادارية. فاضطر المشرع المصري الى التدخل واصدر البرلمان المصري تعديلاً على قانون التحكيم المصري اضاف فيه الى المادة الاولى من قانون التحكيم فقرة ثانية تنص على ما يلي: "بالنسبة الى منازعات العقود الادارية يكون الاتفاق على التحكيم بواسطة الوزير المختص أو من يتولى اختصاصه بالنسبة للاشخاص الاعتبارية العامة، ولا يجوز التفويض في ذلك". وعلى هذا الدرب سار المشرع اللبناني، وانتهزها فرصة لادخال تعديلات مهمة أخرى على قانون التحكيم، ولكن الأهم كان: الدولة في تحكيم العقود الادارية وبعدها جاءت امور مهمة كثيرة ايضاً! 3- ماذا قال مجلس شورى الدولة اللبناني حين أبطل البندين التحكيميين؟ اذا جاء التعديل رداً على حكمي مجلس شورى الدولة اللبناني حول الهاتف الخليوي، فماذا تضمن كل من حكمي مجلس الشورى حول الهاتف الخليوي؟ من الصعب فهم التعديل من دون القاء نظرة على حكمي مجلس شورى الدولة اللبناني. مجلس الشورى قال حين ابطل عقدي الخليوي: أ - ان المادة 77 اصول محاكمات مدنية نصت على ان الدعاوى المتعلقة بصحة أو مخالفة "امتياز" ممنوح أو معترف به من قبل الدولة اللبنانية تقام الزاماً لدى المحاكم اللبنانية ولا يجوز فيها التحكيم. ب - النظام العام لا يجيز التحكيم في العقود الادارية وان كانت المادة 809 أ.م. تجيز للدولة اللجوء للتحكيم. ج - اعتبر مجلس الشورى ان اختصاصه ذو قيمة دستورية وفق المادة 20 من الدستور اللبناني. اي ان القانون وحده لا يمكن ان يعدل في اختصاصاته بل لا بد من ان يفعل ذلك الدستور. د - ابطل مجلس الشورى الشرط التحكيمي ولكنه عاد فأجاز التحكيم على اساس اتفاقية تشجيع الاستثمارات التي لحظت امكان تسوية اي خلاف حول الاستثمارات عن طريق تحكيم مركز تحكيم واشنطن ICSID، أي اتفاقية حسم منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الاخرى والتي انشأت مركز تحكيم واشنطن. فيكون قد أبطل الشرط التحكيمي في العقد وعاد فأجاز التحكيم ولكن وفقاً لنظام ال"ICSID" لأن الاتفاقيات الدولية تعلو مترتبة عن القانون. ثانياً: التعديل الذي ادخل على قانون التحكيم اللبناني 1- أجاز التحكيم في دعاوى "الامتياز" كانت المادة 77 من قانون اصول المحاكمات المدنية تنص على ان "الدعوى المتعلقة بصحة أو بمخالفة امتياز ممنوح أو معترف به من قبل الدولة اللبنانية تقام لدى المحاكم اللبنانية" ولم يكن هذا النص يجيز التحكيم في دعاوى امتياز ممنوح أو معترف به من الدولة. وجاء التعديل، فاعترف المشرع بالتحكيم في "العقود الادارية"، وأشار التعديل الى التحكيم الدولي، فيكون التعديل قد فتح مجالاً للتحكيم في الدعاوى المتعلقة بصحة أو بمخالفة امتياز ممنوح أو معترف به من قبل الدولة اللبنانية هي حكماً عقود ادارية بمفهوم القانون الاداري اللبناني، ولكن المشرع اشترط لصحة الشرط التحكيمي في عقد الامتياز ان يكون التحكيم دولياً وليس داخلياً. فيكون التعديل قد فتح باب التحكيم في عقود "الامتياز" الذي كان مغلقاً قبل ذلك، ولكنه اشترط ان يكون التحكيم داخلياً. فيكون المشرع قد عالج أول سبب من الاسباب التي استند اليها حكم مجلس الشورى عند ابطاله حكمي الخليوي. 2- اعترف المشرع في التعديل بالتحكيم في العقود الادارية: كان القانون قبل تعديله معترفاً بالعقدين المدني والتجاري ولا يأتي على ذكر العقد الاداري. ولكن من جهة أخرى كان ينص على انه: أ - في التحكيم الداخلي: "... اذا كان النزاع موضوع التحكيم من اختصاص القضاء الاداري تعطى الصيغة التنفيذية من قبل رئيس مجلس شورى الدولة وفي حال رفضها يعترض على قراره لدى مجلس القضايا". ألا يكون المشرع اللبناني قد اعترف بشكل غير مباشر بالعقد الاداري في التحكيم؟ ولكن مجلس الشورى بقي متمسكاً باختصاصه في العقود الادارية التي يمارس فيها اشخاص القانون العام امتيازات السلطة العامة واعتبر هذا الاختصاص من النظام العام؟ إزاء موقف المشرع المتردد بعدم الاعتراف بالعقد الاداري من جهة وبالنص على اعطائه صيغة التنفيذ من جهة اخرى. فإن الوضع كان محيراً ومتناقضاً وغير محسوم! ومن الواضح ان المشرع اللبناني في قانون التحكيم قبل تعديله تجنب وضع نظرية عامة للتحكيم في العقود الادارية التي يقوم فيها اشخاص من القانون العام باستعمال امتيازات السلطة العامة. ب - نص قانون التحكيم اللبناني في باب التحكيم الدولي على انه "... يحق للدولة ولسائر الاشخاص المعنويين العامين اللجوء الى التحكيم الدولي". فيكون قانون التحكيم اللبناني قبل تعديله قد جاء الى موضوع التحكيم في العقود الادارية على رؤوس اصابعه وبحذر شديد، ولكنه بقي خلف المشرعين المصري والفرنسي بمسافات، وبدلاً من الاعتراف بالعقد الاداري اسوة بالعقد المدني والعقد التجاري فإنه أغفله في المادة 762 ثم جاء اليه بطريقة غير مباشرة عن طريق اجراءات اعطائه صيغة التنفيذ... فهو إذ اغفل الاعتراف بالتحكيم في العقد الاداري قال في المادة 795 أ.م. ان النزاع التحكيمي اذا كان من اختصاص القضاء الاداري وهو العقد الاداري بالذات، فإن رئيس مجلس الشورى هو الذي يعطي صيغة التنفيذ وطبق هذه القاعدة في التحكيم الدولي حيث اجاز للدولة اللجوء الى التحكيم بحيث حسم موضوع أهلية الدولة ولكنه جاء الى العقد الاداري الذي يقوم فيه أشخاص القانون العام بممارسة سلطة عامة، جاء اليه بطريقة ملتوية، اذ نص على أن الصيغة التنفيذية يعطيها رئيس مجلس الشورى، اذا كان النزاع من اختصاص القضاء الاداري، فيكون قد عالج الموضوع من ناحية أصول المحاكمة ولم يعالجه في الاساس. ومن الواضح اذاً ان المشرع تجنب وضع نظرية عامة للتحكيم في العقود الادارية التي يقوم فيها اشخاص القانون العام باستعمال امتيازات السلطة العامة، وتجنب كذلك وضع قواعد لجوء الدولة الى التحكيم الدولي، وفضل ان يخطو خطوة الى الامام باجازته للدولة اللجوء الى التحكيم، ثم يخطو خطوتين الى الوراء حين يتجاهل وضع العقد الاداري الذي يقوم فيه اشخاص القانون العام باستعمال امتيازات السلطة العامة وحصر تدخله بتنظيم اصول المحاكمة والصيغة التنفيذية من دون أساس الموضوع. وقد جاء التعديل لحسم هذا الاضطراب، فأضاف الى المادة 762 التي تجيز للمتعاقدين ادراج بند تحكيمي في العقود المدنية والتجارية، اضاف فقرتين تحلان مشكلة العقد الاداري في التحكيم وتضعان نظرية عامة للتحكيم في العقود الادارية اذ نصت الفقرتان على انه: "يجوز للدولة ولأشخاص القانون العام اياً كانت طبيعة العقد موضوع النزاع... اللجوء الى التحكيم... اعتباراً من تاريخ العمل بهذا القانون التعديلي، لا يكون البند التحكيمي أو... اتفاق التحكيم نافذاً في العقود الادارية الا بعد اجازته بمرسوم يتخذ في... مجلس الوزراء بناء لاقتراح الوزير المختص بالنسبة للدولة او سلطة "الوصاية بالنسبة للأشخاص المعنويين من القانون العام". فيكون التعديل: أ - قد اجاز التحكيم في العقود الادارية الداخلية والدولية. ب - حل مشكلة لجوء الدولة الى التحكيم الدولي. ج - وحل مشكلة اعطاء الصيغة التنفيذية للاحكام التحكيمية الداخلية والدولية التي تحسم منازعات عقود ادارية ولكنه حل مشكلة العقود الادارية المتضمنة بنداً تحكيمياً بعد صدوره، اما في الدعاوى التحكيمية التي صدرت أو ستصدر فيها احكام تحكيمية عادة لعقود ادارية قبل التعديل فإن اعطاءها صيغة التنفيذ يبقى بابه موصداً. د - والتعديل، وان أجاز التحكيم في العقود الادارية الداخلية والدولية، الا انه اشترط ولصحته شرطاً ليس بالسهل وهو اجازته بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء وبناء لاقتراح الوزير المختص أو سلطة الوصاية وهو أمر ليس بالسهل. وهذا يشكل قراراً ادارياً قابلا للطعن امام مجلس شورى الدولة لتجاوز حد السلطة أي لعدم قانونيته. 3-التعديل أجاز للمحكم اختصاص النظر بصحة العقدين المدني والتجاري بعدما كان اختصاصه مقتصراً على تفسير وتنفيذ العقدين كانت المادة 762 أ.م.م. تنص على انه "يجوز للمتعاقدين انه يدرجوا في العقد، بنداً ينص على أن تحل بطريقة التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح التي تنشأ عن تنفيذ هذا العقد أو تفسيره". وجاء التعديل ليضيف: "... التي تنشأ عن صحة هذا العقد أو تفسيره أو تنفيذه". ولكنه حصر ذلك في العقدين المدني والتجاري دون العقد الاداري كما سنوضح ذلك لاحقاً. وهذا التعديل حل مشكلة كبرى كانت تواجه البنود التحكيمية واختصاص المحكمين فلم يكن جائزاً للمتعاقدين بمقتضى القانون السابق، ان يعطوا المحكم اختصاص النظر باختصاصه وبصحة العقد التحكيمي. وكانت هذه الثغرة في القانون تعيق اختصاص المحكم في كثير من المنازعات المتعلقة بصحة العقد، كعيوب الرضى وعدم تحقق الشرط المعلق الخ ... وكان الطرف المتضرر من التحكيم ينفذ من هذه الثغرة ليعطل التحكيم بادلائه بأسباب تتعلق بصحة العقد. 4- قرار المحكمة القضائية الذي يبت بطلب رد المحكم لم يعد يقبل أي طعن: وسجل التعديل خطوة حكيمة في حماية التحكيم وقطع الطريق على المناورات الرامية الى وضع العصي في دواليب مسيرة المحكمة التحكيمية، إذ كان الحكم الناظر بطلب رد المحكم يصدر عن محكمة البداية ويقبل القرار الاستئناف ثم التمييز، الأمر الذي يجعل بامكان الطرف الذي لم تعد له مصلحة في التحكيم، ان يختلق سبباً تافهاً لرد المحكم، وتستغرق الرحلة اطول بكثير مما تستغرقه المحاكمة التحكيمية، وكانت هذه فقرة تنفذ منها سوء النية لتأخير سير التحكيم، فقطع المشرع هذا الطريق واضاف، الى 770 التي تبحث في عزل المحكم وطلب رده من المحكمة المختصة بذلك، اضاف نصاً يقول: "... وقرار المحكمة بهذا الشأن أي بشأن رد المحكم لا يقبل أي طعن". * محام - دكتور في الحقوق