عندما يقيس السوريون تصويتهم لمصلحة قرار دولي ربما يستخدم مبرراً لضرب العراق، الى الطموح و"العقيدة القومية"، تكون نتيجة ذلك سلبية. لكن هذا التقويم يصبح ايجابياً عندما يقارن القرار الجديد بمشاريع القرارات الاميركية - البريطانية السابقة وبسياسة "افضل الممكن". والتقويم النهائي هو ان سورية حصلت على احسن الممكن في ضوء الظروف الحالية، وباعتبارها دولة صغيرة وعضواً غير دائم في مجلس الامن، ربما يكون ما تحقق انتصاراً ديبلوماسياً او جولة ستليها جولات. اي ان سورية وحليفتيها فرنسا وروسيا نجحت في ازالة الغام في القرار، ولكن لا يزال فيه الكثير من الالغام. لم يكن متوقعاً ان تصوّت سورية ضد القرار 1441 وان تقف وحيدة ضد الاممالمتحدة، لكن ما كان متوقعاً ان تمتنع عن التصويت، وان يعلن نائب رئيس البعثة السورية فيصل مقداد رئيس البعثة ميخائيل وهبة كان في دمشق للتشاور عدم تلقيه تعليمات من حكومته، خصوصا ان الطلب السوري بتأجيل التصويت الى ما بعد اجتماع وزراء الخارجية العرب، لم تلبه الدول الدائمة العضوية في مجلس الامن. ولعل قراءة متأنية ل"مفاجأة ربع الساعة الاخير" والموقف السوري في الفترة الاخيرة، واتصالات دمشق بالدول المعنية وحلفائها و"الرسائل الاميركية" التي تلقتها تجعل التصويت لمصلحة القرار غير مفاجئ، خصوصاً عندما يوضع هذا الموقف في اطار التطورات الاخيرة والقدرة السورية على الجمع بين المبدئية - العقائدية والبراغماتية - المصلحية. من يعرف السياسة السورية، يدرك ان دمشق لا يمكن ان تضع نفسها في "خانة الرئيس صدام حسين". ستبقى تعلن رفضها العدوان على العراق وتوجيه ضربة عسكرية اليه، ومبدأ تغيير النظام من الخارج، لكنها ستبذل كل جهد ل"البقاء ضمن دائرة القرار" لاعتقادها بأن تلك ال"لا" العراقية التي كان يقولها صدام هي التي حولت العراق من دولة اقليمية كبرى الى وضعه الحالي، بينما تلك ال"نعم، ولكن" السورية جنبتها الكثير من "المؤامرات". لذلك كان هناك مستويان يحددان الموقف السوري من مشروع القرار الدولي. يتعلق الاول بوجود اعتقاد بأن دمشق مستهدفة بعد بغداد، خصوصا عندما ينظر الى: مناقشة مشروع قانون محاسبة سورية في الكونغرس، اشارة الرئيس جورج بوش في خطابه في 24 حزيران يونيو الى استضافة سورية ل"منظمات ارهابية"، حديث مساعد وزير الخارجية الاميركي جون بولتون عن تعاون سوري - روسي في مجال مواجهة السلاح النووي الاسرائيلي، ثم حديث مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط وليم بيريز مع الرئيس بشار الاسد عن انبوب النفط بين كركوك وبانياس والحرص على عدم تهريب اسلحة الى العراق وضرورة التزام الشرعية الدولية، اضافة الى "اعتذار" واشنطن عن تحليق طائرة عسكرية اميركية في الاجواء السورية "خطأ". ... بالمثل واكثر سورية ردت اعلاميا وسياسيا على هذه "الرسائل الاميركية" بالمثل وربما اكثر. اذ تواصلت الانتقادات للسياسة الاميركية في الشرق الاوسط. كما استدعت الخارجية السورية السفير الاميركي تيودور قطوف لتقديم "احتجاجين رسميين" على كلام بولتون، وطلب "توضيحات رسمية له ولدور الولاياتالمتحدة في التسلح النووي الاسرائيلي". لذلك، هناك اعتقاد في دمشق بأن "اميركا لا تمارس ضغوطاً ولا تهديدات على سورية، اذ لها سجل في ايصال رسائلها بطريقة حذرة: لا ضغط ولا تهديد بل حوار ورسائل". ولكن في الوقت ذاته، هناك ادراك ان "من لا يكون في السياسة براغماتياً يصطدم بالجدار، وان العقائدية لا تتناقض مع البراغماتية، لأن الاولى تحدد الهدف والثانية طريقة الوصول اليه". فكان السؤال السوري: هل المصلحة ان نقول "لا" ونرفض مشروع القرار الاميركي ونواجه؟ والجواب: "ان قول لا، يعني ان القرار سيكون أسوأ ودور سورية وتأثيرها سيتراجعان في منع اي ضربة للعراق". ويتعزز هذا الاقتناع السوري لدى مراجعة التطورات التي طرأت على القرار الدولي والمراحل التي مر فيها: "1- قبل اللجوء الى مجلس الامن، كان هناك تهديد مباشر من الولاياتالمتحدة بضرب العراق. ولتحقيق ذلك اجرت الديبلوماسية الاميركية اتصالات واسعة في الشرق الاوسط وخارجها. اكثر من ذلك بدأ حشد الاساطيل والقوة لتحقيق هذا الهدف. 2- الجهد العربي بدأ بخط معاكس للخطط الاميركية باتجاهين: سورية والدول العربية اعربت في اكثر من مناسبة عن رفضها العدوان على اي دولة عربية، اضافة الى جهد عربي لاقناع القيادة العراقية بتفويت الفرصة على الراغبين في شن عدوان وذلك عبر قبول المفتشين من دون شروط. وهذا ما حصل. 3 -المعركة الديبلوماسية في مجلس الامن كانت طويلة وقاسية بسبب اعلان كبار المسؤولين الاميركيين وبينهم الرئيس جورج بوش ان قرار ضرب العراق او تغيير نظامه اتخذ، اي ان العدوان مفروغ منه. كما ظهرت تصريحات تشير الى ان الولاياتالمتحدة تملك حق ضرب العراق بموجب القرار 678. 4- تكثفت الجهود الدولية خصوصاً الفرنسية والروسية لاسقاط مقولة "حق الضربة التلقائية" وتخويل مسؤولية اتخاذ اي اجراء الى مجلس الامن. هذا حصل وكان انتصارا كبيراً. 5- تواصلت المعارك الديبلوماسية. الولاياتالمتحدة تريد ان تخرج من المجلس بقرار يجيز الخيار العسكري مباشرة من دون العودة الى مجلس الامن، في حال حصول اي التباس حول عمل المفتشين، ولكن مرة ثانية نجحت الجهود الديبلوماسية الصعبة لتأكيد مسؤولية المجلس كمسؤولية مركزية في اتخاذ اي قرار يتعلق بالتفتيش. ثغرات كل تلك العوامل تدفع السوريين الى التعاطي ب"ايجابية" مع القرار لاعتقادهم ب"النجاح في ازالة الكثير من العبارات الغامضة التي يمكن ان يستخدمها الراغبون في ضرب العراق، مع بقاء ثغرات اخرى يمكن ان تثير ازمة في حال وجود نية مبيتة". لذلك يرى المسؤولون السوريون ان "اخفاق العدوان ممكن بتوافر موقف عربي موحد وجدي على الساحة الدولية، لشرح ابعاد العدوان واخطاره، والتحذير من خطر عدم وجود تظاهرات شعبية لان السكوت خطر، والتذكير بأن عدواناً كهذا يخدم الارهابيين، اي ارهاب مقابل ارهاب الدولة". ... و"الاهم" زيارة وفد عربي لبغداد لتفادي اعطاء اميركا اي فرصة يساء فهمها، وللتنبيه الى اخطار ترك اي ثغرة يستغلها الطرف الآخر، اذا كانت نياته سيئة… وان تشكل لجان المجتمع المدني فرقاً للذهاب الى بغداد وتقويم اداء فرق التفتيش، كي تكون مرجعية تدحض اي افتراء بوجود صعوبات تعرقل عمل المفتشين.