Kanan Makiya. The Rock: A Tale of Seventh - Century Jerusalem. الصخرة: قصة القدس في القرن السابع. Pantheon. 2001. pages 368. هذه الرواية هي الاولى للكاتب والباحث العراقي كنعان مكية والذي سبق ان اصدر مؤلفات عدة حول المسألة العراقية. فهذا الكتاب يشكل خروجاً على مستويين بالنسبة الى مكية، الاولى يتعلق بالشكل، من حيث انه رواية وليس بحثاً فكرياً، والآخر يرتبط بالموضوع، من حيث انتقاله مكاناً وزماناً من بلاد الرافدين الى مدينة القدس، ومن العالم المعاصر الى عالم صدر الإسلام. وقد أثار هذا الخروج لتوه قدراً من التعكير في استقبال المادة المطروحة، اذ حاول البعض قراءتها على انها ذات مضمون سياسي مبطن، او على الاقل على ان لها بُعداً سياسياً حتمياً وان كان عرضياً، لا سيما وان مواقف كنعان مكية، في الموضوع العراقي كما في الشأن الثقافي العربي العام، كانت ولا تزال مثيرة للجدل. ثم ان اختيار التفاصيل في الرواية الجديدة جاء ليتجاوز بعض الممنوعات الضمنية في المتداول الثقافي العربي، وتحديداً المكون اليهودي في الحضارة العربية الاسلامية. وقد يكون من سوء حظ هذه الرواية بالفعل ان نشرها تزامن مع احتدام انتفاضة الاقصى، مما اقحمها حكماً وقسراً في المعركة الفكرية التي تحاول الثقافة العربية ان تخوضها دعماً للحق الفلسطيني. والواقع انه على رغم الاهمية القصوى لهذه المعركة والتي تبدو مبهمة ومترددة بل "شاطحة" في الكثير من اوجهها، فإنه لا يسع الثقافة العربية ان تجعل منها المنظار الاوحد في اعتبار ما يصدر ضمنها وخارجها. والاجدى بالتالي التفاعل مع هذه الرواية على اساس ذاتيتها من دون اسقاطها في سياق تأحيدي قائم على المواجهة في فلسطين. يعتمد مكية في كتابه على ثلاث وسائل روائىة متميزة تجعل روايته خارجة عن المألوف. اولى هذه الوسائل اعتماده لأسلوب "الخيال التاريخي" للتعبير عن تصوره للواقع الثقافي والاجتماعي في المكان والزمان اللذين اختارهما. فمكية ينطلق من معطيات تاريخية مستمدة من المصادر والأصول التراثية. لكن هذه المعطيات شحيحة وغير قادرة بحد ذاتها على رسم معالم الواقع الذي يسعى الى نقل القارئ اليه. فيلجأ مكية اذاً الى إثراء التصور عبر اعتماد تفاصيل خيالية تسمح له بضمان الانسياب الروائي وتطوير الشخصيات في كتابه. فكعب الاحبار مثلاً، وهو الشخصية المركزية في الكتاب، تابعي مشهود، نقلت عنه المصادر مواقف وأقوالاً متفرقة حبكها مكية في كتابه بالقدر الذي تتحمله، مضيفاً اليها تفاصيل خيالية لتأطيرها وتطويرها وإخراج طاقتها القصصية: فعلى سبيل المثال، كعب الاحبار هو في بعض المراجع ابو اسحاق، من دون ان يتضح ما اذا كانت هذه الكنية تعود الى ان اسمه يعقوب فهي حينئذٍ كنية معهودة وحسب او ان بكره كان فعلاً اسحاق. وكتاب مكية يختار الفرضية الثانية، وينطلق منها ليجعل من اسحاق نفسه شخصية رئىسة تتطور على مدى الفصول. اما الوسيلة الثانية التي يعتمدها فهي سرده الكتاب بصيغة المتكلم على لسان اسحاق هذا ابن كعب الاحبار. والهدف هنا قد يكون مزدوجاً. فهو من جهة اضفاء قدر من الحميمية على النص عبر إلغاء دور الكاتب الراوي كوسيط بين القارئ والنص. ومن جهة اخرى فإن الاضافات الخيالية التي يدخلها مكية على التفاصيل التاريخية تسعى الى المحافظة على صدقية زمنية، اي ان المطلوب منها دعم الوصف الواقعي للقدس الشريف في جيله الاسلامي الاول. فصيغة المتكلم التي تكاد ان تحتكر السردية التقليدية في التراث العربي الاسلامي تشكل اذاً تأييداً للصدقية الزمنية المنشودة، وكأن الكتاب هو في واقع الامر مخطوطة اسحاق من القرن الاسلامي الاول، وليس رواية مكية بعد ألفية ونيف منه. إلا ان ثمة معوقات تعترض نجاح مكية في استعماله هذه الوسيلة. فرواية "الصخرة" طبعاً باللغة الانكليزية، والاسلوب اللغوي الذي تعتمده يحاول في آن واحد ان ينقل اجواء فجر الاسلام وان يبقى مفهوماً، لغوياً وحضارياً، بالنسبة الى القارئ الغربي. النتيجة اذاً مُرضية الى حد كبير بالنسبة الى هذا القارئ. اما القارئ العربي او المسلم، مع هذه التسوية التي اختارها مكية، او التي جاءت انعكاساً ضمنياً لتأصله في الثقافة الغربية، فيجد نفسه امام قدر غير متوقع من الغرابة، في المصطلح كما في المواقف والسلوك التي ينقلها المتكلم اسحاق عن نفسه وعن الآخرين. وإضافة الى هذا العامل الشكلي في تعزيز الغرابة بالنسبة الى القارئ العربي، فإن ثمة عاملاً آخر جوهرياً وعائداً الى القراءة التاريخية التي يعتمدها مكية اساساً لروايته. اذ لا يخفى ان التراث العربي الاسلامي، شأنه شأن اي تراث آخر، شهد في تداوله عبر القرون عملاً مستمراً من التهذيب والتشذيب والتركيب. والحصة الأكبر في هذا العمل هي للحقبة الاولى في تشكل اي تراث. وعلى رغم كثافة المادة التاريخية التي صاحبت نشوء الاسلام بالمقارنة مع ضآلتها بالنسبة الى نشوء المسيحية مثلاً، وغيابها شبه التام بالنسبة الى نشوء اليهودية، فإن بعض الجهود في العقود الماضية، في الغرب بشكل خاص، كشفت عن امكان تفكيك التراكم المضموني للسردية التاريخية الاسلامية، كما للسردية القصصية الاسلامية، ابرازاً لروايات وأخبار سقطت منهما. والواقع ان هذه الجهود جاءت متخبطة في بعضها بل مغرضة في بعضها الآخر، وربما كان ابرزها على الاطلاق كتاب "الهاجرية" لباتريسيا كرون ومايكل كوك، وسائر نتاج "مدرسة لندن". لكنها، مع هذا، بوسعها ان تشكل بالفعل مدخلاً الى مراجعة نقدية اجتهادية مثمرة حضارياً للتراث العربي والاسلامي. ويتضح من المراجع والمصادر التي يخصص لها مكية اكثر من سبعين صفحة، ان رواية "الصخرة" تستمد مادتها التاريخية من الاصول التراثية العربية الاسلامية كما من نتاج الدراسات المعاصرة الساعية الى تحليل التراكم الحضاري في الموروث العربي الاسلامي. بل يحصد مكية الروايات من التراثين المسيحي واليهودي ويدمجها في المتداول المتصور لمجتمع اسحاق ابن كعب الاحبار. وفي حين لا يمكن في الواقع التيقن من صحة تأصل هذين التراثين في التداول يومئذٍ، فإن "الصخرة" الناطقة بلسان اسحاق تعتمدهما، فيأتي لسان حالها مألوفاً اسلامياً من حيث المصطلح خلف الغطاء اللغوي الانكليزي، ولكن على قدر ملحوظ من الغرابة من حيث المضمون. اما الوسيلة الثالثة غير المعتادة في رواية مكية فهي غياب العقدة الروائىة. ذلك ان "الصخرة" مجموعة خواطر كتبها اسحاق، والكثير منها مستمد من سيرة ابيه، وصولاً الى توثيقه لخلفية الحدث الذي ادى الى بناء مسجد قبة الصخرة وارتقائه الى المكانة الروحية التي يوليها له الاسلام. وتبرز الخلفية الفنية لدى مكية، وهو المعماري وصاحب المؤلفات في هذا الحقل، في وصفه المسهب والدقيق لتفاصيل عملية البناء، كما في تصويره الحي للمدينة بأكملها. وتضيف الرسوم التي اعدتها زينب يرقلي خصيصاً لهذه الرواية، إضافة الى الصور والرسوم المقتبسة من المصادر التاريخية بعداً مرئياً ثابتاً، يأتي فينضم الى غياب العقدة الروائية ليمنح الكتاب رسوخاً وثباتاً في سرديته يناظر "الصخرة" التي تشغله. وخواطر اسحاق، والتي تشكل الاطار الروائي للكتاب، هي في آن واحد استرجاع لتشكل قدسية الحرم حول الصخرة، من وجهة نظر اسلامية، وتفكيك لهذه القدسية، سواء من حيث هلامية الحجج التي تناقلها المؤمنون في زمن الراوي، او من حيث الغرض السياسي الصريح المنسوب الى خلفاء بني امية في تقديمهم لبلاد الشام وقدسها والصخرة. واسحاق نفسه في كتاب مكية يعاني قدراً من الانفصام. فهو يتمسك باحاطة الصخرة ومحيطها بهالة من الاجلال الروحي، لكنه يكشف عن الطبيعة الطارئة لتأسيس الطقوس والشعائر الخاصة بها. فخلاصة التفكيك، نقلاً عن اسحاق، هو اذاً توثيق لتاريخية الارتباط الاسلامي بالقدس. وليس المطلوب من رواية مكية لزوماً، حين تقدم ضمناً على تفكيك السرديتين الاخبارية والقصصية الاسلامية، ان تجهد ايضاً بنشاط موازٍ لتفكيك السردية الكتابية نسبة الى الكتاب المقدس والتي تشكل اساس الارتباط المسيحي واليهودي بالقدس، في ابعادها الخرافية والتاريخية على حد سواء. والواقع ان مكية يقدم في اطار استعراضه المسهب للمصادر والمراجع المرتبطة بروايته قدراً مهماً من الاشارات الى الاعمال الناشطة في تحليل القرون السابقة للفتح الاسلامي والقدس. وتشكل هذه الاعمال في جملتها تفكيكاً للسردية التاريخية المسيحية في شأن القدس. غير ان اشاراته هذه، والتي تهدف اساساً الى تقديم خلفية المادة التي استفاد منها في رسمه معالم القدس في القرن السابع الميلادي، لا تتوغل في العمق التاريخي لتبلغ الحقبة التأسيسية المفترضة للسردية اليهودية حول المدينة. ولا يمكن تحميل رواية "الصخرة" حملاً فوق طاقتها. فهي ليست بحثاً علمياً في السرديات المتنافسة، بل هي محاولة اولى للتفاعل مع احداها. الا انه تجدر الاشارة هنا الى ان السردية الكتابية اليهودية، وهي الواقعة خارج موضوع مكية، قد تعرضت بالفعل لتحليل نقدي تفصيلي، سواء في الغرب او في اسرائىل، وان اقتصر هذا التحليل في الغالب على الاوساط الاكاديمية. فرواية مكية تساهم وإن عرضياً في مراجعة تأريخية من شأنها، اذا ما توفرت الظروف الفكرية والسياسية المواتية، ان تؤصّل العلاقة الفعلية بالمقومات الحضارية للتراث العربي الاسلامي، خارج اطار الإيمان الديني والذي لا مبرر له ان يتأثر لا سلباً ولا ايجاباً بهذه الجهود. واختيار مكية لكعب الأحبار كشخصية اساسية في روايته بوسعه ان يضيف المزيد من الزخم الى هذه الجهود. ذلك ان كعب، وهو المسلم التابعي المحدث، ذو خلفية يمنية يهودية. فيهوديته، كما يمنيته، احد الروافد العديدة التي التقت لتشكل الثروة الحضارية العربية الاسلامية. والتجرد والموضوعية يقضيان العناية بهذا الرافد خارج اطار الاعتبارات الآنية التي تضعه في موقع الخصم وتسعى الى مراجعة تشويهية للتاريخ العربي الاسلامي بغرض استثنائه وإخراجه. الا ان تصوير مكية لكعب الأحبار يعاني من قدر من التنميط. ففي حين يجد البعد الإيماني الاسلامي لدى كعب توضيحاً ومَوْقعةً من جانب مكية يعيده الى خلفيته في التجربة الفردية والجماعية، فإن يهودية كعب تبدو في "الصخرة" وكأنها أساس جوهري ثابت في مقابل متحوّله الاسلامي. فكعب يهودي آمن بالرسول دون ان يخلّ بيهوديته وهو الحال المتوقع من منظور غربي، بدلاً من ان يكون يمنياً تهوّد آباؤه ثم أدرك الاسلام فأسلم وهو الراجح من منظور عربي اسلامي. ففي التصوير الذي يلتزمه مكية قبول ضمني بمقولات ترضى بها الثقافة الغربية، وتميل الثقافة العربية اليوم للأسف الى الأخذ بها أيضاً، لكنها ليست مسلمات مطلقة ولا دليل البتة على ان الثقافة الاسلامية في منشئها كانت تعتنقها. وهذه المسلمات هي 1 أصالة الانتماء العرقي، و2 عرقية الانتماء اليهودي، و3 غلبة الانتماء اليهودي على غيره. واستقرار هذه المسلمات في الثقافة الغربية يرتبط، وإن بشكل غير مباشر، بغياب التفكيك العلني للسردية الكتابية اليهودية. وأسباب هذا الغياب عديدة، منها الطارئ كالإصرار على تجنب ما يمكن توظيفه في العداء لليهود على خلفية التجربة الغربية الحافلة بأشكال هذا العداء، ومنها الأصيل وتحديداً القبول الضمني في الثقافة الغربية بالصدقية التاريخية للسردية الكتابية. ويعود هذا القبول الى الأصل الكتابي للمسيحية التي تشكل إحدى اهم مقومات الحضارة الغربية، والى إحياء التشديد على العهد القديم لدى الطوائف الانجيلية. فعلى الرغم من ان الحقبة التأسيسية المفترضة للسردية الكتابية تقع خارج اطار "الصخرة"، فإن غياب الاشارة الى تفكيكها يأتي انسجاماً ضمنياً ع الواقع الثقافي الغربي. ولا يخفى ان القبول الافتراضي بالسردية الكتابية مستقر في الخطاب الفكري العربي أيضاً، وذلك باعتبار ان هذه السردية تشكل إحدى اسس السردية القصصية الاسلامية. فالنقد العلمي للسردية الكتابية يكاد ان يكون غائباً في الثقافة العربية، باستثناء بعض المحاولات الجذرية التي ربما افرطت منهجياً في هذا الصدد فاعتبرت مثلاً ان السردية الكتابية برمتها نشأت خارج بلاد الشام، او بعض التجني غير العلمي الذي اعلن سجالياً اسقاطه للسردية الكتابية بأكملها باعتبار انها مزورة أو ملفقة أو مغرضة. ف"صخرة" مكية، بروائيتها الهادئة وبمادتها التوثيقية والخيالية، تقدم ضمناً للثقافة العربية تحدياً يدعوها الى تأصيل علاقتها بتاريخها ويطالبها بالتصدي للمسلمات، سواء تلك التي اعتادتها في اطار سرديتيها القصصية والاخبارية او تلك التي تقترضها عن قصد او غير قصد من الخطاب الثقافي الغربي المهيمن.