كان لافتاً النجاح الذي حققه "حزب العدالة والتنمية" في تركيا، وهو لا يستكمل فقط ظاهرة سجلتها احزاب اسلامية اخرى في كل من الباكستان والمغرب والبحرين، بل يتعدى ذلك الى المساهمة في رسم مستقبل تركيا ومشروعها الرئىس في الاندماج الاوروبي، ويفتح آفاقاً جديدة امام الظاهرة الاسلامية في الحياة السياسية المعاصرة لبلدان العالم الاسلامي ومنها بلداننا العربية. بداية يمكن القول ان حزب العدالة والتنمية على رغم حداثة تأسيسه 2001 هو خلاصة لتجربة بدأت في تركيا قبل اكثر من ربع قرن مع تأسيس "حزب السلامة الوطني" بزعامة نجم الدين اربكان، الذي تميزت تجربته بأنها لم تكن مجرد مشاركة في الانتخابات وإيصال ممثلين عن الاسلاميين الى البرلمان، بل تعدت ذلك لكي تكون مشاركة في الحكم في نظام هو الاكثر علمانية، ربما على صعيد العالم كله، اذا اسثنينا الانظمة التي قامت على اساس ايديولوجي ماركسي. فالعلمانية، كما عرفتها تركيا، كانت بمثابة عقيدة وليست مجرد آلية حكم. ولكن من الثابت انه للمرة الاولى يصل حزب اسلامي بهذه القوة من حيث سيطرته على غالبية المقاعد النيابية: 363 من اصل 550 مقعداً. والمفارقة انه تقاسم المقاعد مع حزب الشعب الجمهوري 178 مقعداً وهو وريث الحزب الاتاتوركي الاول، في حين ذهبت تسعة مقاعد للمستقلين. وبذلك اصبح الباب مفتوحاً امام الحزب الاسلامي للحكم منفرداً، بل لا تنقصه سوى اربعة اصوات حتى يمتلك غالبية الثلثين المطلوبة لاقرار تعديلات على الدستور العلماني لتركيا. مع ذلك لا يبدو ان هذا النجاح قد اثار القلق الذي اثاره مجرد دخول "حزب الرفاه" كشريك في ائتلاف حاكم، وهنا تبرز الخصوصية التي حكمت هذا الاكتساح الاسلامي للبرلمان التركي. وأول ما يشار اليه هنا ان ثمة حكماً صادراً بحق زعيم الحزب طيب رجب اردوغان وهو رئىس سابق لبلدية اسطنبول يمنعه من مجرد الترشيح للنيابة وبالتالي من تولي رئاسة الحكومة، الذي يقتضي العرف ان يتسلمها باعتباره رئىساً لحزب الغالبية البرلمانية، لكنه ممنوع من ذلك بحكم القانون الذي يفرض اختيار الوزير الأول من بين اعضاء المجلس النيابي المنتخبين. ومن المفارقات ان زعيم الحزب الحالي كان معروفاً بأنه من الخط المتشدد في احزاب اربكان المتتالية السلامة - الرفاه - الفضيلة وكان معروفاً باسم "المجاهد"، وقد تخلى عن وظيفته لمجرد انها كانت تتطلب حلق الشاربين، وجاء الحكم بحرمانه من حق الترشيح بسبب قصيدة قالها في محفل جماهيري جاء فيها: "مآذننا حراب وقبابنا خوذ ومساجدنا ثكنات" ما اعتبر تحريضاً طائفياً وتعبئة دينية. لكنه هو نفسه الذي يعتمد في حركيته على تأييد الجناح النسائي في حزبه فيما خطابه السياسي خلال الحملة الانتخابية يجافي الخطاب التقليدي للاسلام السياسي، مثل الحديث عن تطبيق الشريعة وقضايا الحجاب او تلك التي ترمي الاتحاد الاوروبي بأنه اتحاد مسيحي غير مسموح لتركيا الدخول فيه. على العكس من ذلك ذهب الخطاب مباشرة الى القضايا الحياتية التي تمس المواطنين الاتراك ودعا الى الالتزام بمعايير كوبنهاغن، وهي التي تحدد الشروط المطلوب توافرها في اي دولة تريد ان تدخل الاتحاد الاوروبي. لذلك لم يكن غريباً ان يرى بعض المراقبين النجاح الكاسح لحزب العدالة والتنمية بمثابة ثورة تركية ثالثة بعد ثورتين تمثلت اولاهما بمجيء عدنان مندريس 1950، والثانية بانتخاب تورغوت اوزال رئىساً للوزراء في 1983 بعد الانقلاب العسكري الذي وقع في 1980. والواقع ان اردوغان ذهب في خطابه التطميني الى حد القول: "دعوا الناس يطبقون المبادئ العلمانية في تركيا بدلاً من الاكتفاء بالكلام عنها فقط". مضيفاً: "إننا سنذهب الى تطبيق هذه المبادئ كما جاءت حرفياً في الدستور". اما المسؤول الاقتصادي في الحزب علي جوشكين فلا يتردد في القول ان حزبه يشارك "حزب الوطن الأم" فلسفته وهذا يفسر كون التنمية والعدالة حصد أصواتاً ليس فقط من التيار الاسلامي بل ايضاً من اليمين والوسط. طبعاً من العوامل التي لعبت لمصلحة اسلاميي العدالة والتنمية ان الناخب التركي، في طبقاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة، اراد ان ينتقم من فشل الأحزاب الاخرى في تسيير امور البلاد، وان ينهي عهد الائتلاف الحزبي الحاكم الذي أضعف الأسس التي قامت عليها الحكومات المتعاقبة في العقد الاخير، وقد مال اتجاه الناخبين يميل نحو اعطاء الاكثرية الكافية لحزب واحد كي تؤهله للحكم وحده. ويعتقد ان الفرصة متوافرة امام حزب العدالة والتنمية كي يثبت عملياً ملاءمة الديموقراطية للاسلام، والرهان على تجربة حزب العدالة والتنمية يتعدى فقراء الاناضول الذين قيل انه جاء ممثلاً لهم، ويتعدى ما يمكن ان يفتحه من آفاق تعاون اوروبي - اسلامي وصولاً الى ان تتولد قناعة لدى اسلامي المنطقة بأنه ربما كان النظام العلماني افضل انظمة الحكم لازدهار قيم الاسلام السمحاء. والمعروف ان جوهر موقف العدالة والتنمية الذي ادى الى هذا النجاح الكاسح، يكمن في اعطائه الاولوية لتطبيق معايير كوبنهاغن على تطبيق احكام الشريعة: ربما لأنه رأى ان الاولى قد تكون المدخل للوصول الى الثانية التي تعسر دائماً الوصول اليها. بعد "ابي الاحرار" مدحت باشا في الربع الاخير من القرن التاسع عشر وبعد "خالد الترك" كمال اتاتورك في الثلث الاول من القرن العشرين، تقدم تركيا هذه المرة اردوغان العدالة والتنمية نموذجاً قد يكون نصيبه من النجاح افضل من سابقيه، وقد يجد من يطلق عليه منذ الآن وصف المسلم العلماني او العلماني الاسلامي.