في الطريق من الحدود الأردنية الى بغداد، كنتُ في سيارة مع اصدقاء من الأدباء التونسيين، أرادوا ان يقطعوا رتابة الليل والطريق الطويل، بالشراب والغناء. كان القمر مكسور الإطار، متكئاً بضعف على نهاية الأفق، وكان صوت الصديق التونسي خشناً تخدشه عاطفة مبهمة هزت قلبي وعصرته. كنتُ عائداً الى بغدادي بعد ثمانية اعوام من الغياب، انشد ان استعيد فيها نفَساً ماضياً كنت بأشد الحاجة إليه. كان الصوت المشروخ يغني اغنية ليبية يا ريت، يا ريت ما دللتني، وهجرتني يا ريت... يا ريت وكانت السيارة تهدر مخترقة الظلام والمسافات. ماذا يعمل الغياب القسري عن الوطن بنفس الفنان؟ أتكون هذه الحادثة سبباً لتوهج ملكاته ام ذريعة لخمود أزلي؟ كنتُ جربتُ الحالين. حين كنتُ أعيش في باريس اوائل الستينات انغلقت عليّ ابواب لغتي العربية، وتملكتني بكامة لم أجد لها مخرجاً، فلا انا قادر على التعبير بسهولة عن نفسي كتابةً كما اعتدت، ولا كان بوسعي الدخول في الجو اللغوي الفرنسي. غير اني استرجعتُ لغتي الماضية حالما عدتُ الى وطني وغرقتُ في جوّي العربي. كنتُ غارقاً في تأملات مشتتة، يمنحها انطلاق السيارة جرياناً غير متقطع، وكنتُ، في الآن نفسه وبسبب الغناء الحزين، مغموراً بذكريات الماضي البعيد التي انبعثت على حين غرة. كانت بغداد لي ينبوعاً متفجراً على الدوام بالألوان والإيحاءات والشخوص والحوادث ذات المغزى، ولم يجف هذا النبع ولم تنفذ مياهه عندي على رغم البعد والغربة. ولأني شعرتُ، مع ضوء القمر الشاحب وأصوات الغناء الشاكية، بأني سأعاود من قريب رؤية المجالي التي فارقتها والانغمار بالأجواء الحميمية، فقد أمسكتْ بي حال من السوداوية العاطفية رافقتني حتى إطلالة الفجر ونحن على أطراف الضواحي الغربية لبغداد. * كان الفرح الذي تملكني وأنا أهبط صباحاً من غرفتي في الطابق السادس بفندق "المنصور - ميليا"، فرحاً ذا أبعاد خاصة، فهو شفيف، يفيض بلطف فيغرق النفس بتلقائية وحنان. لم يكن له سبب ظاهر، وبدا لي مثل مجرى موسيقي وجد له متنفساً في أعماقي. كان عدد من الأدباء الشباب جالسين في الصالة حول حوض الماء الصغير، فحييتهم وجلستُ إليهم. كانوا ميسومين بميسم الحصار الثقيل الذي عصر ارواحهم عشر سنوات مضت، غير اني، مع ذلك، رأيتُ نفسي الأخرى في وجوههم، وسمعتُ اصداء اعمالي تأتيني من مجرد وجودهم معي. لقد أدركتُ وأنا بينهم بأني كنتُ لهم شخصاً ذا امتياز يحمل لهم ثقة ما في المستقبل على رغم الظلمات الدامسة المحيطة بهم. وكان ذلك، بالنسبة إلي، تجربة واكتشافاً ذاتياً عظيم القيمة، فلا يمكن ان توصف غبطة تلك اللحظات القليلة التي يتقدم إليك خلالها شاب متألق النظرات، ليصافحك بحرارة عرفاناً بجميل مجهول أسديته له، ثم يمضي من دون كلام. كانت الشمس، في سماء بغداد الصافية الزرقة، هي شمسي التي ألفتها والتي لم أجدها في اي مكان آخر من الدنيا. تلك فانتازيا تنعش الروح احياناً. وفي غمرة النشوة الخفية التي يوحي بها نهار شتوي مشمس في بغداد، دعاني برفق صديقي العزيز الروائي مهدي عيسى الصقر، ان أزوره في بيته وأزور مكتبتي المحفوظة لديه، فعادت بي الذكرى لنفسي ولداري التي اندثرت. كان ذلك قبل ثماني سنوات، حين وصلني خبر الى تونس بأن داري قد بيعت وسيجرى هدمها قريباً وأن عليّ أن أستعجل المجيء لإنقاذ مكتبتي من الضياع، فأسرعتُ، على رغم مرضي، ألبي النداء. وأثناء ما كنتُ مشتركاً في نقل آلاف الكتب المثقلة بالغبار والحنين من رفوفها الى سيارة الحمل، شعرتُ بتعب غريب ينتابني، تعب القلب من وخز كل هذه الذكريات الموجعة، فانتحيتُ أنفرد بنفسي في غرفة كانت في ما مضى، غرفة النوم. جلستُ على الأرض متكئاً على الحائط. كانت الغرفة فارغة، فارغة، تكاد جدرانها العارية تجهش بالبكاء، وكنتُ في ارتمائي اللامعقول على ارض سعاداتي القديمة، اتساءل عن معنى الحياة وهل يمكن ان نجده يوماً. ولم احظ بجواب، غير أني، وأنا بين كتبي اقلّبها بمحبة وأتملى من منظرها مصفوفة بعناية في بيت الصديق المخلص، احسستُ بأن صلة الوصل لم تنقطع، ما دامت هذه الأشياء الورقية الثمينة تسبغ، بطريقتها الخاصة، نوعاً من المعنى على ما نسميه الحياة. تلك شؤون غير مألوفة، لم أتوقع مواجهتها حين حزمتُ حقائبي عازماً السفر الى بغداد. * وكان، بعد ذلك، من هذه الأمور اللامألوفة ايضاً، ان تصرّ عليّ زوجتي حفظها الله على ان أقدم قرباناً الى جدي الأعلى الشيخ عبدالقادر الكيلاني تيمناً بنجاحي ورجاء بنجاح اكبر، فبدأتْ رحلة البحث عن كبش للفداء. خرجتُ وزوج ابنتي بسيارته، فرحنا نجول في شوارع بغداد، آملين ان نجد لقيتنا في اماكن معلومة ومعدّة لبيع الأغنام، إلا اننا لم نفلح. لم يكن الوقت ملائماً لأسباب لم أستوعبها جيداً، فاقترح زوج ابنتي ان نخرج الى الضواحي القريبة لعل الحظ يساعدنا هناك. ومع إصرارنا غير المفهوم وبعد اكثر من ساعة واتتنا الفرصة حين وصلنا "الرستمية". رأينا راعياً وخرافه يتسكعون على أرض ذات عشب فاتجهنا إليه. كان شيخاً جاوز الستين، يرعى خمسة خراف امامه، فسألناه هل يبيع لنا واحداً منها. نظر إلينا بشك لحظات، ثم أجاب بالإيجاب، فدخلنا معه في نقاش عن الثمن وحديث عن الأحوال في العالم. كان مهلهل الثياب، بلحية شعثاء، وقبل ان نصل معه الى اتفاق أخبرنا بأنه كان أسيراً لمدة عشرة أعوام وقد عاد من الأسر قبل اشهر، فضعفت إرادتنا في تنزيل السعر وأعطيناه ما أراد. حين وصلنا، مع الذبيحة في صندوق السيارة، جامع الشيخ عبدالقادر الكيلاني، اتجهنا الى بابه الخلفي، وقبل ان نتقدم امتاراً هجم علينا جمع من النساء والأطفال حاملين القدور والطاسات وغير ذلك من ادوات المطبخ، حادسين بتجاربهم القريبة وبحاستهم السادسة ربما، بأن لدينا ما يهمهم ان يتذوقوه. اضطررنا الى إيقاف السيارة على جانب والنزول منها ثم غلق الأبواب. قيل لنا إن هذا الجمع من الجنس الضعيف سيحطم كل شيء إذا ما أخرجنا الذبيحة امام انظارهم، ونصحونا باللجوء الى الباب الرئيس والاستعانة بالحراس هناك وطباخي الجامع لإتمام نقل الذبيحة الى المطبخ. كنا معتصري النفوس حزناً وإشفاقاً، غير اننا عملنا بما نُصحنا به. كان الجوع قديماً لدى ذلك الجمع من البؤساء، وهو حال جديدة على العراقيين. وعلى رغم اني كنتُ في محلتي العزيزة "باب الشيخ" إلا ان المتغيرات التي طرأت عليها لم تدع لي ان استذكر اي شيء. ذهبت مع ريح التقدم دارنا العتيقة التي حاولتُ أن اعيد خلقها، كالطفل، في "الرجع البعيد"، وامّحت من الوجود تلك الطرقات الترابية الضيقة التي شهدت ألعابنا وأفراحنا الطفولية، وبقينا نحن في هذه الدنيا، لا نعلم عما نبحث حقيقة، ولا كيف يفلت هذا الوجود ونظامه من بين ايدينا وفهمنا بطريقة عبثية. تونس - ايلول سبتمبر 2002.