هل مات مكسيم غوركي ميتة طبيعية أم مقتولاً؟ سؤال لا يزال يقض مضاجع مؤرخي الأدب ومؤرخي الاتحاد السوفياتي السابق، لأن ثمة من المعطيات ما يقترح بأن صاحب "الأم" و"الحضيض" إنما مات مقتولاً وسط أجواء محاكمات موسكو والتصفيات المذهلة التي جرت على هامشها. ذلك أن كاتب "الواقعية الاشتراكية" الأكبر، وصديق لينين، ما كان من الطبيعي له أن يموت بذلك الشكل المباغت، وقد استقر في وطنه بعد تجوال طويل، وصار ينظر إليه على أنه الكاتب الأكبر في بلد الاشتراكية الأساسي في العالم. من الصعب، طبعاً، في ضوء المعطيات المتوفرة حتى الآن، تأكيد أو نفي واحد من الاحتمالات المطروحة. لكن المؤكد هو أن العقود المثالية من الستينيات، وكما لم يكن متوقعاً، دفعت بمكسيم غوركي إلى خلفية الواجهة الأدبية العالمية بعض الشيء، فلم يعد "على الموضة" وخفت ترجمة أعماله، وصار من النادر لريبرتوار المسرح العالمي أن يلتفت إلى أعماله. ومع هذا، من الصعب للقارئ أن يتصور أن مكسيم غوركي غير مهم في تاريخ الأدب العالمي، خصوصاً أنه ما أن تأتي صدفة ما على ذكر أعماله، حين يتذكر الناس كيف أن هذه الأعمال ظلت، ولعشرات السنين، مصدر إلهام للكتاب وللمسرحيين وللسينمائيين وغيرهم، بدءاً من الألماني برتولد بريخت، وصولاً إلى عشرات المبدعين العرب الذين كان غوركي ملهمهم الأكبر. والمرء إذ يتذكر مكسيم غوركي هنا، تقفز إلى ذهنه على الفور روايته الكبرى "الأم" التي اقتبسها بريخت. غير أن العمل الذي ارتبط به اسم غوركي أكثر ما ارتبط كان من دون أدنى شك مسرحية "الحضيض" أو "أهل الحثالة"، التي لو دخلنا في تفاصيلها سنجدنا أمام مصدر أساسي للعديد من الأعمال وصولاً إلى بعض شوامخ الأدب العربي كما كتبها نجيب محفوظ وتوفيق يوسف عواد وغيرهما. "الحضيض" المسرحية التي قدمت ألوف المرات وبعشرات اللغات على مسارح العالم "هي واحد من أعمال مكسيم غوركي المبكرة إذ أنه كتبها عند نهايات القرن التاسع عشر، لتقدم للمرة الأولى في موسكو في العام 1902. ومن هنا يمكن القول إن "الحضيض" كانت أول مسرحية اسبغت على غوركي شهرته ومكانته في روسيا، كما في العالم لاحقاً. كما أنها افتتحت، إلى حد ما، مسرحاً "بؤسوياً" طريفاً، صار لاحقاً ثابتة من ثوابت المسرح في العالم. تدور أحداث "الحضيض"، إذاً، وسط تلك البيئة التي كان غوركي يفضل الحديث عنها. بيئة المتشردين البائسين الذين بالكاد يعيشون، وبالكاد يجدون قوت يومهم، أو مكان يؤويهم، ومع ذلك نراهم يتمسكون بالعيش وبحب الحياة ويقومون يومياً بألف بهلوانية وبهلوانية لكي يؤكدوا ذلك التمسك. المسألة في مثل هذه البيئات لا علاقة لها، طبعاً، بالخير أو بالشر، أو بالمواعظ الأخلاقية. انها مسألة بقاء بحكم الضرورة، وحيل للوصول إلى البقاء. والأحداث هنا تدور من حول المرابي العجوز كوستيليف الذي حول قبوا في بنايته إلى مهجع ليلي يقيم فيه الأفاقون المشردون. ومن بين هؤلاء النزلاء يطالعنا على الفور ومنذ أول المسرحية فاشكا الذي يبدو متميزاً على الآخرين بقوته وذكائه، إلى درجة يصعب معها تصّور أن ينتمي حقاً إلى هذا المكان. وفاشكا هو عشيق فاسيليسا، زوجة المرابي، ظاهرياً، لكنه في الحقيقة حبيب اختها ناتاشا. فاسيليسا لا تكف عن محاولة اقناع فاشكا بقتل العجوز اكراماً لحبه لها. وفي النهاية يقدم فاشكا على الجريمة وقتل المرابي، ولكن ليس كرمى لعيني الزوجة، إنما لكي يحمي ناتاشا من اضطهاد كوستيليف وزوجته لها ومن عنفهم في التعامل معها. ذلك أننا منذ البداية نكتشف كم أن الاثنين يكرهانها. وكما رأى النقاد دائماً فإن الأحداث في "الحضيض" ليست هي الأمر الأكثر أهمية، المهم هو الإجواء وخصوصاً الحوارات التي تكشف عن تصادم الفلسفات والمواقف وتقاطعها. وهي حوارات وضعها غوركي على ألسنة العديد من الشخصيات الثانوية والأقل ثانوية. فهناك العجوز لوقا الذي نكتشف أنه شريد وقديس في الوقت نفسه. فهو يعامل البشر جميعاً كأنهم أطفال ويتمكن دائماً من الحصول على ثقتهم فيصبح أباً حقيقياً لهم، معطياً إياهم أملاً دائماً وحباً للحياة مفعماً. فنراه مرة يخفف من آلام امرأة تموت، واعداً إياها بالدعة والسلام في الأعالي، ونراه تارة يداوي صغاراً ابتلوا بإدمان الكحول، ولكن بعد مقتل المرابي يختفي لوقا تماماً وتختفي معه كل ضروب الأمل والسكينة، وتموت الأحلام الكبيرة التي كان يبثها في ذهنيات السكان. هذا المكان وسكانه ليسوا سوى محصلة للظلم الاجتماعي، وما الواقعية الاشتراكية التي تحيط بالنص سوى تأكيد على هذا، ولكن من المؤكد في الوقت نفسه أن غوركي إنما شاء عبر كتابته هذا العمل الأخاذ، أن يسبر أغوار النفس البشرية في شكل إجمالي، وأن يسأل عن معنى وجود الإنسان في هذا الكون. ومن هنا، بدلاً من أن تعامل "الحضيض" كمسرحية ثورية، تعامل معها المخرجون الأكثر ذكاءً والأكثر اهتماماً بالشرط الإنساني ككل، بوصفها كناية عن العالم الإنساني كله، لأن المسألة فيها لا تعود مسألة طبقية أو صراعية بل مسألة اسئلة عن أفعالنا ووجودنا كما عن الشر الكامن في دواخل كل فرد منا. وزاد من "جمال" هذا العمل - إن جاز الحديث عن أي جمال - كون العالم الذي يصف غوركي بؤسه، يبدو في نهاية الأمر عالماً فاتناً ساحراً، لصيقاً بإنسانية الإنسان، حيث يتجاور الرعب مع المرح، والقتل مع الأمل، والفلسفة العميقة مع الصراخ الداعي إلى النجدة. في اختصار، قيل دائماً عن هذه المسرحية إنها، خلف واجهتها تخفي حباً للإنسان لا حدود له، ورغبة في عيش الحياة والوصول إلى النور. وهذا كله تكاد تختصره عبارة لوقا: "إن الأحياء هم الذين يجدر بنا أن نحب". ولد مكسيم غوركي وهو الاسم المستعار لألكسي مكسيمو فيتشي بيتشكوف العام 1868 في بلدة نبجين - توفخورود الصغيرة التي ستحمل لاحقاً، بفضله، اسم غوركي. وهو حين أضحى كاتباً منذ مطلع شبابه آمن بالأفكار الاشتراكية والثورية وكرس كتاباته لبحث القضايا الاجتماعية والدفاع عن قضية الشعب، ومن خلال ذلك طرح بقوة كافة مبادئ الاشتراكية الواقعية. منذ طفولته تجول الفتى، وقد اصبح يتيماً، في انحاء روسيا ومارس العديد من المهن. أما أعماله الأولى من قصة قصيرة وقطع للمسرح فقد نشرها بين 1892 و1901 بتوقيع "غوركي" الذي يعني "المرّ". وفي العام 1902 ظهرت مسرحيتاه "البورجوازيون الصغار" و"الحضيض" لتبلغ شهرته الذروة. ولقد أودت به نزعاته الثورية إلى السجن إثر ثورة 1905. ثم نفي إلى كابري في إيطاليا، وارتبط بصداقة عميقة مع لينين، ولاحقاً كتب مذكراته وصار الكاتب الرسمي لروسيا الثورة. وهو مات في موسكو في العام 1936 في عز التصفيات الستالينية.