منذ أوائل النصف الثاني من القرن العشرين بدأت أنظار إسرائيل تتركز على المياه اللبنانية وباشرت الدولة العبرية بإعداد العدة للاستيلاء على هذه المياه بكل الوسائل المتاحة، فنشأ نتيجة لذلك "مشروع جونستون" الذي أخذت النقطة الرابعة منه على عاتقها إيجاد بعض الحلول المائية للتجمعات السكنية اللبنانية من أجل تخفيف استخدام المياه الصحية وحفظها لإسرائيل. وكانت هذه أولى المحاولات الاميركية لمد يد المساعدة لإسرائيل في تحقيق أطماعها في المياه اللبنانية. أشار جونستون في تقريره حول حوض الوزاني والحاصباني إلى أن في إمكان لبنان أن يستفيد من نحو 35 مليون متر مكعب من المياه من أصل 145 مليون متر مكعب. وبعد نحو عقد من تاريخ هذا التقرير قام لبنان بأولى محاولات استغلال مياه الوزاني عبر تركيب محطة ضخ على النبع، فأقدمت إسرائيل على قصف المنشآت قبل تركيب المضخات على رغم أن كمية المياه التي كانت الدولة اللبنانية تنوي استثمارها آنذاك تقل كثيرًا عن الكمية التي أشار إليها التقرير. هذه المقدمة هي محاولة لتوضيح الوقائع حول حوض الحاصباني، إذ من الواضح أن الحوض يعطي كمية تزيد كثيرا على 145 مليون متر مكعب، أخذًا في الاعتبار امتداده ومساحته، ما يؤدي تلقائيًا إلى رفع حصة لبنان من مياهه. وحتى لو سلمنا جدلاً بأن الكمية المخصصة للبنان هي في حدودها الدنيا أي 30 مليون متر مكعب، فإنه لا يزال بعيدًا من الوصول إلى هذا الرقم بإمكاناته الحالية ماليًا واقتصاديًا ويحتاج وقتًا طويلاً لتحقيق هذا الإنجاز. ولكن على رغم ذلك تعتبر إسرائيل أن مجرد التفكير في استثمار لبنان لجزء من مياهه هو بمثابة إعلان حرب. وتفتعل الدوائر الاسرائيلية هذه الأيام ضجة كبيرة حول قضية استثمار لبنان لجزء من حصته من مياه الوزاني والحاصباني. وتظهر الدراسات الفنية أن إسرائيل تستفيد من كميات كبيرة من المياه حاليًا خارج الكميات المتداولة، وأهمها مياه نبع الدان الذي ينبع من الأراضي اللبنانية في أطراف مزارع شبعا المحتلة، وكذلك من المياه الجوفية اللبنانية التي تذهب نحو إسرائيل بالكامل تقريبًا، إضافة إلى الفائض شتاءً الذي لا يستخدمه لبنان والذي يتجاوز كثيرًا الأرقام المتداولة. إذ إن تصريف الحاصباني، مثلاً، يرتفع من نحو 15 ألف متر مكعب يوميًا في الصيف إلى نحو 150 ألف متر مكعب في الشتاء، تقوم إسرائيل بتخزينها علمًا أن للبنان الحق في الاستثمار في هذه الكمية. ولو أضفنا إلى هذه الوقائع أن إسرائيل استغلت منذ الخمسينات وحتى التحرير في أيار مايو 2000 كامل المياه اللبنانية من حوض الحاصباني والوزاني ومن كل الينابيع الموجودة في الأراضي اللبنانية خارج هذا الحوض والتي تقع ضمن الأراضي التي كانت تحتلها ولا تزال تحتل بعضها، يتبين أن هذه الكميات ليست في الواقع للاستخدام الإسرائيلي حاليًا، ولكنها إثبات للسيطرة الاسرائيلية على مصادر المياه في المنطقة المحيطة بالدولة العبرية، وهو الأمر الذي تقوم به منذ عام 1967، إذ استولت على كامل حصة الأردن من المياه وأعطته بموجب اتفاق السلام الموقعة مع الملك الراحل حسين مياهًا غير صالحة للشرب، كما سيطرت على مياه الجولان الموجودة في الهضبة وفي القسم الشرقي من جبال حرمون. وفي مطلع السنة الجارية أجرت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني دراسة لحوض الحاصباني والوزاني تمهيدًا لدرس الميزان المائي وتحضيرًا لبيان حصة لبنان من هذا الحوض. وبالفعل قام مجلس الجنوب على هذا الأساس في الصيف الماضي باستثمار جزء من مياه الوزاني وركبت مضخة ومدت أنابيب قطر بوصة. وكانت الكمية المخطط لاستثمارها حوالى 10 ل/ث. وفي تلك المرحلة نشطت التحركات الاسرائيلية والدوريات لمراقبة أشغال مشروع جر مياه الوزاني، وكتبت الصحف الاسرائيلية عن هذا الأمر. وكان الهدف من وراء هذه التحركات الميدانية والاعلامية الإشارة إلى قيام لبنان بعملية الاستثمار. ولكن لوحظ أنه لم تجر عمليات استفزاز ولم تصل التحركات حد التهديد المباشر، وهذا الأمر ناتج عن سببين، الأول معرفة يقينية عند إسرائيل أن هذا الاستثمار لا يمكن أي يلقى صدى عالميًا معترضًا على لبنان أو مؤيدًا لإسرائيل لان عمليات الجر التي يجرى العمل عليها تثير السخرية بكمياتها الضئيلة. والثاني هو محاولة إسرائيل بعد انقضاء الضجيج اعتبار أن لبنان أخذ حصته من هذه المياه. إلا أن الدولة اللبنانية تابعت العمل على توسيع الاستثمار من مياه حوض الحاصباني والوزاني، وعلى هذه الخلفية ينفذ مشروع لسحب 140 ل/ث من مياه نبع الوزاني إلى تل النحاس لاستثمارها وتوزيعها على القرى الجنوبية العطشى. وينص المشروع في دراسته الاولية على تجهيز مضختين طاقة كل منها 140ل/ث إحداهما عاملة والثانية احتياط Stand by تحسبًا للظروف، وتجهيز خط دفع قطره 16 إنشًا لرفع المياه إلى أعلى نقطة في الحوض تمهيدًا لإعادة توزيعها بالجاذبية. وأثار هذا الأمر حفيظة إسرائيل فوجهت عبر رئيس وزرائها آرييل شارون تهديدًا واضحًا للبنان من أجل الكف عن هذا المشروع باعتباره يهدد أمن إسرائيل المائي ويخل بالتوازن. وتتالت التصاريح والتقارير الصحافية وبعضها أشار إلى انخفاض مستوى المياه في بحيرة طبريا لمحاولة تصوير الأمر وكأنه يشكل اعتداءً مباشرًا على إسرائيل، علمًا أن كميات المياه المتوقع سحبها من الوزاني لن تتعدى 150ل/ث. ويتعدى مستوى الضجة الحالية بكثير ما أثير سابقًا، وهي تشير بوضوح إلى أطماع إسرائيل الفعلية في المياه اللبنانية بدليل تحريض وزير الخارجية الإسرائيلي شيمون بيريز واشنطن لإقناع لبنان بالاكتفاء بالليطاني وترك الحاصباني والوزاني لإسرائيل. ويتجاهل المستوى الجديد من التهديد الإسرائيلي مجموعة من الحقائق في محاولة لفرض واقع معين تمهيدًا للانقضاض على حقوق لبنان التي تكفلها المواثيق والقوانين الدولية. وهذه الحقائق هي: أولا: إن حوض الوزاني والحاصباني، هو حوض لبناني 100 في المئة، ويتلقى الهواطل ضمن الأراضي اللبنانية بالكامل. ثانيًا: تسيل هذه المياه الهاطله لاحقًا عن طريق تفجر نبعي الحاصباني والوزاني من أراض لبنانية وتجري ضمن المجرى نفسه. ثالثًا: يستوعب هذا الحوض ما لا يقل عن 300 ألف نسمة من السكان اللبنانيين. رابعًا: تسيل بالإضافة إلى ذلك مجموعة كبيرة من الينابيع التي تنبع من أراض لبنانية الدان مثلاً إلا أنها لا تزال محتلة، وتستفيد إسرائيل من كميات من المياه تتعدى المترين مكعبين في الثانية فيما تضيع حصة لبنان من هذه المياه كليًا حتى الآن. خامسًا: في ظروف طبيعية بين دولتين متجاورتين، تتقاسم مياه الأحواض المشتركة قياسًا إلى كيولها وكمياتها وتجمع شتاءً وتستثمر صيفًا، ما يعني تقاسم المياه المتساقطة والجارية على اختلاف كمياتها، ولبنان لا يقوم بهذا الأمر حتى الآن فيما تستولي إسرائيل على كل المياه الشتوية الهاطلة والمتفجرة، وتستفيد من أكثر من حصتها الحقيقية. وقد يبدو أن الدولة العبرية تستغل هذه المياه فعلاً في الزراعة أو للشرب أو في الصناعة أو حتى في مشاريع أخرى، لكن الحقيقة أنها تريد هذه المياه لاكمال مخططها الاستراتيجي للسيطرة على مصادر المياه في المنطقة وبالتالي خلق المناخ الملائم لاحتمالات الهجرة اليهودية إلى أرض الميعاد. * عميد كلية الزراعة في الجامعة اللبنانية.