اذا كان البرنامج الانمائي التابع للامم المتحدة يرى ان "شح المياه سيتحول في القريب العاجل مسألة حياة او موت بالنسبة الى شعوب بكاملها"، واكد هذه المقولة الرئيس الفرنسي جاك شيراك حين قال "ان المياه اما ان تكون مصدراً للحروب أو دافعاً للتعاون"، فان وزير الموارد المائية والكهربائية اللبناني سليمان طرابلسي اكثر تفاؤلاً اذ يقول، مخاطباً المجتمعين اخيراً في مقر اسكوا في بيروت، "لو نظرنا اليوم الى ما يقال عن ان القرن المقبل هو قرن حروب المياه، لاكدنا ان يوماً واحداً من هذه الحرب سيكلف اكثر من بليون دولار. وهذا المبلغ يكفي لارواء منطقة بكاملها ارضاً وبشراً عاماً كاملاً من تحلية مياه البحر لمن ليس لديه ماء". والدول العربية لا "ذهب ازرق" الماء عندها بحسب تقرير الاممالمتحدة الذي اظهر فقرها وحاجتها الى المياه وجاءت في ادنى السلم لناحية احتياطها، ويبلغ مخزون الدولة "المحظوظة" منها نحو ألف متر مكعب فيما الاقل حظاً يقاس مخزونها بالمئات. اما لبنان الذي خرج من حرب طويلة اوقفت مساره عشرات السنين، على ما يقول الوزير طرابلسي، "فبدا لابنائه كأنه وطن يعوم على المياه وتذهب مياهه هدراً من دون افادة في حين نعيش اليوم ازمة مياه كبيرة لم تمر علينا منذ العام 1933". وهذا، اي غنى لبنان بالمياه، سائد لدى كثر فيما يعيش البلد ازمة ليست بسيطة ويصل العجز في ميزانه المائي السنوي الى "5،1 بليون متر مكعب في السنة المتوسطة" على ما قال ل "الحياة" المدير العام للتجهيز في وزارة الموارد الدكتور فادي قمير. فاذا كان لبنان في السنوات المتوسطة يقع في عجز، فان سنوات الشح تخلف مشكلة حقيقية وتلحق اضراراً بالغة في غير قطاع. وهذا ما سيعانيه لبنان هذه السنة بسبب الشح الذي اصابه اذ بلغت نسبة الامطار هذه السنة ثلثي المعدل. ويتوقع ان يخلف ذلك اضراراً فادحة في المزروعات والكهرباء وبخاصة في مشروع الليطاني اذ تجمع في بحيرة القرعون نحو 95 مليون متر مكعب من المياه بينها نحو 50 مليوناً من العام الماضي علماً ان سعة البحيرة تقدر بنحو 220 مليون متر. مصادر المياه وفي لبنان مصدر وحيد للمياه هو الهواطل، اذ لا انهار تصل اليه من دول مجاورة بل على العكس تنبع منه انهار وتغادره شمالاً وجنوباً. وبالتالي يعتمد المتساقطات التي تقدر بنحو 5،8 بليون متر مكعب سنوياً. لكن هذا الرقم الذي اعتمد في الادبيات السياسية ليس دقيقاً. وقال الاستاذ في الجامعة اللبنانية الدكتور مصطفى مروة ل "الحياة": "منذ العام 1975 تاريخ اندلاع الحرب تقدر كميات المتساقطات تقديراً بناء على حسابات الأعوام السابقة، ولا رقم صحيحاً. وتتفاوت الآراء والارقام على تقدير الكمية بين 15 بليون متر مكعب وسبعة بلايين متر مكعب، ما اثار خلافاً شديداً على تحديدها، فأخذ رقم وسط اتفق عليه وهو الاقرب الى المنطق ويقدرها بنحو 5،8 بليون متر مكعب. هذا الرقم متعارف عليه ولا امكان للاجابة عن دقته". وأضاف: معروف ان فصل الشتاء عندنا ثلاثة اشهر لكن الحقيقة ليست كذلك، ففصل الامطار يبدأ في القسم الاخير من الخريف وينتهي في القسم الاول من فصل الربيع. وايام المطر تجمع عادة بثلاثة اشهر وهي متحركة زمنياً وكمية وليست لدينا نسبة ثابتة من الهواطل ولا مراصد، الا واحداً او اثنين، لتحدد الكمية بدقة"، معتبراً ان "الخطأ يكمن في عدم وجود مراصد في كل المناطق اللبنانية كما كانت الحال قبل الحرب"، ومشيراً الى "خطة لحظ فيها 85 مرصداً تغطي الاراضي اللبنانية كافة، لكنها لم تنفذ بعد". وتوزع كميات المتساقطات على لبنان في شكل متفاوت بحسب طبيعته وهي تتألف من سلسلتين جبليتين، شرقية وغربية، تمتدان من الجنوب الى الشمال. والسلسلة الغربية اطول من الشرقية وهي على امتداد لبنان من جبل عامل جنوباً الى القبيات شمالاً وتتألف من قمم متصلة بعضاً ببعض وتتلقى نسبة 60 في المئة من الهواطل وتسقط الاربعون في المئة الباقية على الداخل البقاع والسلسلة الشرقية. وتقدر كمية المياه التي تتلقاها السلسلة الغربية بنحو 4250 مليون متر مكعب، فتنحدر، بسبب القمم شرقاً وغرباً، عبر انهار وسواق، ويذهب منها سيلاً وتبخراً وتعرقاً نصفها ويبقى نحو 2500، مياهاً جوفية وسطحية. واذ اكد الدكتور قمير هذه الارقام اوضح ان المتساقطات هذا العام بلغت نحو 5،7 الف مليون متر مكعب ويبقى منها نحو 5،3 الف مليون. وبعد التبخر والتعرق يبقى نحو 8،1 الف مليون متر مكعب من المياه. وتتوزع كمية المتساقطات بحسب النسب المئوية على النحو الآتي: 50 في المئة من الامطار تتبخر وتتعرق، و35 في المئة تتسرب الى باطن الارض فينفجر بعضها ينابيع، ويتفرع بعضها الآخر جوفياً وصولاً الى البحر او البلدان المجاورة شمالاً وجنوباً. وتجري 15 في المئة من الامطار على السطح. والمياه السطحية هي عبارة عن انهار قصيرة المجرى شديدة الانحدار، من السلسلة الغربية في اتجاه البحر، الا اربعة انهار داخلية هي العاصي الذي يتجه نحو سورية، والليطاني الذي ينبع في لبنان ويصب فيه وهو اطول الانهار اللبنانية واغزرها، والوزاني والحاصباني اللذان يرفدان نهر الاردن. ويستخدم لبنان فعلياً من مياهه في السنة المتوسطة نحو الف مليون متر مكعب اي نصف مياهه فيما نصف الكمية الآخر يذهب هدراً اضافة الى ما يهدر من المياه الجوفية من خلال الآبار الارتوازية الكثيرة جداً في كل المناطق اللبنانية. واذ يعتبر البعض ان لبنان غني بمياهه الجوفية نظراً الى تكوينه الجيولوجي وتربته الكلسية الكارستية التي تغطي نحو 65 في المئة من مساحته ما يسهم في تسرب المياه الى باطن الارض لتحفظ في الخزانات الجوفية، يقول الدكتور مروة ان "في لبنان على امتداده، ثلاثة خزانات جوفية طباقاً ضمن الطبقات المانعة والسامحة وتختزن نحو 3000 مليون متر مكعب، وهذا الرقم ليس دقيقاً لامرين: تسرب المياه الجوفية، وكثرة الينابيع الصغيرة، والآبار الارتوازية التي لا حصر لعددها اذ تكاثرت اثناء الحرب. وهي تلحق ضرراً كبيراً بالمياه الجوفية لناحية اهدارها وتلويثها اذ تظهر بعض حالات تلوث من تسرب مياه مبتذلة عبر بعض الآبار الى المياه الجوفية"، مشيراً الى "ان الحفر، قبل عشرين عاماً، كان يصل الى اول خزان على عمق نحو مئة متر اما اليوم فيصل الى خمسمئة متر اي الى الخزان الثالث. وهذا يعني ان الخزانين الاولين قلت ماؤهما ولم تعد تكفي وتالياً اصبحنا مرغمين على الوصول الى الخزان الثالث اي اننا بدأنا نستهلك من الاحتياط الموجود لدينا، مستبقين وقوع ازمة المياه بعشرين عاماً بدلاً من ان نقيم سدوداً على الانهار لنحجز 50 في المئة من مياه المتساقطات التي تذهب اهداراً"، واشار الى "اناس جعلوا من الآبار الارتوازية تجارة كاملة وبعضهم كان يحفر بئراً ويبيع ماءها كأنها ملكه فيما هي اموال عمومية"، معتبراً ان على الدولة ان "تفرض رسماً ولو قرشاً واحداً على الليتر". واذ امتنع الدكتور قمير عن كشف عدد الآبار الارتوازية الموجودة في لبنان اكد ان "بعض الآبار مرخصة وبعضها الآخر غير مرخص، ولدينا احصاءات لقسم كبير منها. وكلما ورد اخبار عن بئر لا رخصة لها او تستغل لغير الغاية التي من اجلها صدرت الرخصة نقفلها". واوضح ان الوزارة تعطي ايصالاً باستثمار بئر ضمن شروط معينة على عمق معين 150 متراً والعمق الاكثر يحتاج الى مرسوم". وقال ان "لبنان يستخدم نحو بليون متر مكعب من مياهه السطحية والجوفية، لكن الظروف التي مر بها حالت دون استخدامه للبقية، من خلال اقامة منشآت كبرى من سدود وبحيرات". وفي ما يتعلق بالمياه الدولية او المياه المشتركة فهي ليست كثيرة في لبنان، اذ يشترك مع سورية في نهر العاصي، وقد وقع البلدان اتفاقاً، وصفه الدكتور قمير "بالجيد جداً، لانه حدد للبنان كمية مياه لم تكن محددة مسبقاً وهي بحسب الاتفاق تقدر بنحو 80 مليون متر مكعب اي 20 في المئة من تدفق النهر". ونهرا الوزاني والحاصباني يتجهان جنوباً الى اسرائيل التي تستغلهما كاملين من دون ان يستفيد لبنان بحقه منهما، ويقول قمير "للبنان حصة من هذه المياه لكنه لم يقدر ان يحصل عليها لانه في حال حرب مع اسرائيل. وان قرار الدولة اللبنانية هو رفض الجلوس الى طاولة المفاوضات المتعددة الاطراف التي فيها لجنة تتعاطى في شأن المياه، ما دامت تحتل لبنان ولم تنفذ القرار الدولي الرقم 425" واكد ان "لبنان سيطالب بتعويض مالي لعدم تمكنه من استثمار هذه المياه بسبب الاحتلال"، موضحاً ان "لها قيمة مهمة جداً". وعما يقال ان اسرائيل تسرق مياه نهر الليطاني اجاب "لا سرقة في مياه الليطاني، وكل ما يقال كلام غير واضح. ونكرر للمرة الالف ان مياه الليطاني تحصر في سد القرعون وتولد فيها الكهرباء ونحن نعرف ما نولد وما نحصر وما نرسل الى القاسمية مصب النهر قرب مدينة صور". وهذا ما اكده ايضا الدكتور مروة اذ استبعد ذلك "ليس لان اسرائيل لا تسرق فهي تغتصب الارض وتسرق التراب، بل من الناحية الفنية هذا الامر غير ممكن. واذا اراد الاسرائيليون ان يركبوا مضخات فالكلفة تزيد عن الافادة، وتالياً لا مصلحة لهم في ذلك". وقال "لكن المؤكد ان اسرائيل تأخد مياه نهري الوزاني والحاصباني كاملة اضافة الى استيلائها، بواسطة "جيش لبنان الجنوبي" الموالي لاسرائيل، على ثلاث آبار ارتوازية قرب منطقة العرقوب وهي آبار كبيرة 30 ليتراً/ ثانية". الحاجات ويعتبر الدكتور مروة ان الحاجات "يجب ان تقدر عملياً بناء على احتساب كمية المياه في لبنان، في مقابل احتساب عدد السكان ونسبة استهلاك الفرد وترشيد الاستخدام ليتناسب مع الكمية لان استخدام المياه لم يعد مقياساً للتمدن والحضارة. لو افترضنا ان ارضنا تخزن 3000 مليون متر مكعب فهي يجب ان تكفي كل الاحتياجات". وقال ان "المشكلة الاساسية في بلادنا الترشيد". واعتبر ان من الواجب "اقامة سدود وبحيرات جبلية على الانهار اللبنانية لحجز نحو 50 في المئة من المتساقطات التي تذهب هدراً وثمة دراسات اجريت لهذه الغاية في اكثر من منطقة لناحية صلاح المنطقة لاقامة سدود، ولكن لا دراسة قادرة على الاجابة عن كل المياه اللبنانية بل هناك دراسات عن مناطق متفرقة". ورداً على الاسئلة الكثيرة التي طرحت وتطرح لناحية عدم قيام الدولة بمشاريع للاستفادة من كل المياه ورقيها الى مصافي الدول المتطورة التي لا تدع "نقطة ماء تهدر"، قال الدكتور قمير "ان ظروف الحرب التي مرت بها البلاد حالت دون انشاء سدود وبحيرات جبلية لحصر المياه". واضاف "اما اليوم فالوزارة في صدد وضع استراتيجية جديدة للبنان ذات هدفين، الاول انشاء بحيرات على كل الاراضي اللبنانية وحصر اكبر كمية من المياه السطحية، والثاني اعادة ضخ مياه المتساقطات في المياه الجوفية، اضافة الى استخدام الطاقة الشمسية لتوفير نحو 50 في المئة من فاتورة الكهرباء". واكد ان "لبنان سيقوم بنقلة نوعية لمواجهة القرن ال 21 ببدء الخطة عملياً السنة المقبلة لأن الخطة التي وضعت عام 1995 تنتهي السنة الجارية وهي كانت لمد الشبكات. وسيبدأ العمل ببناء السدود ضمن خطة انقاذية للوضع المائي متكاملة بين سنتي 2000 و2009، وستلحظ لكل محافظة موازنة، وتقدر قيمتها بنحو 1000 بليون ليرة". وعن مصادر التمويل أجاب: "هي قروض ميسرة من البنك الدولي والوكالة الفرنسية للتنمية والبنك الاسلامي. وهذه المشاريع مجدية لان لمياه الشفة تعرفة ولمياه الريّ تعرفة". وفصّل قمير الوضع على النحو الآتي: تقدر حاجات لبنان بنحو 5،3 بليون متر مكعب لان فيه نحو خمسة ملايين نسمة، يشربون ويستعملون منزلياً اضافة الى التسرب في الشبكات وتقدر بنحو 30 في المئة. فاذا اعطينا الفرد 150 ليتراً نكون في حاجة الى 700 مليون ليتر للناس. وبالنسبة الى الزراعة تقدر المساحات القابلة للزرع 280 الف هكتار في حين نسقي ب 80 الف هكتار بمعدل يتفاوت بين ستة آلاف متر مكعب و10 آلاف. واذا اردنا ان نوفر الامن الغذائي ونطوره فنحتاج الى 8،2 بليون متر مكعب، من دون احتساب التسرب، لري ال280 الف هكتار، اذ يجب الا يعتمد لبنان الزراعات التقليدية فقط لأن فيه اربعة مناخات ويمكن اعتماد زراعات ليست موجودة في منطقة الشرق الاوسط ويكون المصدر الاول للزراعات البديلة الى المنطقة. ولدينا ايضاً سياسة لاعادة تنظيم القطاع الصناعي وتطويره وهذا يتطلب 150 مليون متر مكعب من المياه، فنصل الى عجز سنوي في الميزان المائي يبلغ 5،1 بليون متر مكعب". وعن قرار دمج مصالح المياه في لبنان قال الدكتور قمير "في لبنان 20 مصلحة اضافة الى مصلحة الليطاني، ولا يجوز ان يكون هناك 20 مجلس ادارة في حين ليست كل المصالح منتجة او فيها جهاز فني واداري قوي، بعملية الدمج تكمل بعضها بعضاً ويمكنها العمل مستقبلاً في مياه الري والمياه المبتذلة اضافة الى عملها في مياه الشفة. وبذلك تصبح خمس مصالح اضافة الى مصلحة الليطاني". وعن مصلحة الليطاني اوضح انها انشئت في العام 1954 بهدف الري والتجفيف ومياه الشفة وانتاج الكهرباء. ومصلحة الليطاني تنتج نحو 195 ميغاوات في السنة وكانت تغطي 70 في المئة من حاجات لبنان من الكهرباء في السبعينات اما الآن فتغطي نحو 15 في المئة. وتحدث عن مشاريع الليطاني وهي: 1- مشروع القاسمية - راس العين، وهو مستحدث انتهى العمل به السنة الجارية وسيروي 4000 هكتار بأحدث الوسائل التقنية. 2- مشروع ري البقاع. المرحلة الاولى لري 2000 هكتار من ضمن المرحلة الكبيرة وهي 21500 هكتار. وهذان المشروعان يمولان من البنك الدولي بقيمة 23 مليون دولار. والمرحلة الثانية مشروع ري البقاع الغربي لري 8 آلاف هكتار، والمرحلة الثالثة لري 21500 هكتار، وهناك مشروع لري البقاع الشمالي. وهناك ثلاثة مشاريع اخرى هي اليمونة وعكار والبارد تمول حالياً من البنك الدولي. وهناك مشروع ري الجنوب وسيكون على منسوب ال800 متر وبدأت التحضيرات للمرحلة الاولى من سد القرعون الى برعشيت وسيكون التمويل من الدول العربية وخصوصاً من صندوق التنمية الكويتي. وثمة مشروع آخر لمياه الشفة هو اقامة سد بسري لارسال مياهه الى بيروت بمعدل 120 مليون متر مكعب سنوياً، ومشروع بركة انان لري صيدا وجبل عامل والنبطية. وعن تلوث المياه قال "نحن في صدد وضع مخطط توجيهي لحوض نهر الليطاني لايجاد الحلول اللازمة لهذه المشكلة، وبالنسبة الى بقية المناطق فالحل جار بفضل شبكات الصرف الصحي التي تنفذ واقامة محطات التكرير التي ستستعمل مياهها حين تنجز في الري ويمكن استعمالها للشرب اذا كُرّرت ثلاث مرات كما هي الحال في فرنسا واميركا".