فاز امس الكاتب الفرنسي باسكال كينيار مواليد 1948 بجائزة غونكور الأدبية عن كتابه "الظلال التائهة" دار غراسيه. واختارت لجنة تحكيم الجائزة برئاسة ادمون شارل رو، الكاتب كينيار في الجولة الثالثة من التصويت، ما يدل على ان اللجنة لم تتفق على اسم واحد. ولعل سبب عدم الاتفاق هذا طبيعة الكتاب الفائز أو النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، اذ ليس هو برواية ولا مذكرات ولا بنص سردي. والجائزة هي من اكبر الجوائز الأدبية في فرنسا وأوروبا. هنا قراءة في الكتاب ومختارات منه: فوز الكاتب الفرنسي باسكال كينيار بجائزة غونكور هذه السنة عن كتابه "الظلال التائهة" قد يكون أغرب فوز عرفته هذه الجائزة منذ انطلاقتها في 1903، لا لأن الفائز هو واحد من كبار الكتّاب الجدد في فرنسا بل لأن كتابه الذي حصد الجائزة ليس رواية ولا مذكرات ولا كتاباً "جماهيرياً". إنه كتاب خاص جداً يحاول كينيار فيه ان يرسي نوعاً من الأدب الجديد محطّماً الأنواع الراسخة كالشعر والرواية والنص الفلسفي. والكتاب هو الجزء الأول من سلسلة تحمل عنوان "المملكة الأخيرة" وقد تلاه كتابان آخران وستمتد السلسلة الى نحو خمسة وعشرين كتاباً. وقد يسأل القارئ: هل يسعى كينيار الى كتابة نوع من "البحث عن الزمن الضائع"، هذه السلسلة الروائية التي أبدعها مارسيل بروست؟ لكن قراءة "الظلال التائهة" تؤكد ان كينيار غير معني بالفن الروائي حتى وإن تضمّن الكتاب والكتب الأخرى حكايات ولوحات حكائية او قصصية. يحار القارئ والنقد بالتالي كيف يتعامل مع كتاب مماثل. خمسة وخمسون فصلاً بعضها مقاطع كبيرة وبعضها مقاطع صغيرة جداً وبعضها جمل، مجرّد جمل. لكنها كلها صاخبة بالأسماء والتواريخ والحِكَم والأفكار والطُرف والأحلام والذكريات والصور و"الاختراعات الأدبية" التي يجيد كينيار صنعها. ولكن لا يمكن تصنيف الكتاب ككتاب "شذرات" على غرار ما كتب نيتشه وسيوران وباسكال وسواهم... فالمقطع لدى كينيار لا يسعى الى الإلماح والإيجاز والتكثيف والصمت على رغم شكله المختصر. بل هو يمعن في التأمل طوراً وفي الهتك تارة وفي السرد والحلم والتخييل... وكم بدا كينيار جريئاً عندما اعلن في احد حواراته الصحافية انه لا يعلم كيف تتم قراءة هذا الكتاب والكتب الأخرى التي تلته وستليه. "إنها تؤلف مجموعة تشكيكية غامضة. إنها كتب إمّا تُقرأ أو تُهمل". وأضاف: "إنني افهم تماماً ألا تُحَب هذه الكتب. إنني لا احاور في هذا الأمر. ومن المبهج ان اجد اخيراً الشكل الذي يخصّني". غير ان "الشكل" الذي وجده كينيار قد لا يكون جديداً تماماً نظراً الى اعتماده الكتابة "المجزّأة" أو "المقطعية" التي استطاع موريس بلانشو مثلاً ان يجعل منها كتابة ابداعية بامتياز. لكن جديد هذه الكتابة يكمن اكثر ما يكمن في ما تحمل من رؤى ووجهات نظر اي من "مضامين" تقترحها اقتراحاً انطلاقاً مما يسمى "تناصّاً". فالكثير من المقاطع او الفصول هي اشبه ب"المعارضات" التي تصطدم ببعض المقولات والنصوص. ثم تضفي لعبة كينيار طابعاً خاصاً على هذه الكتابة واسمة إياها ب"الكتابة التائهة"، التي تستعين بما يتوافر من طرق وأساليب وحيل لتكون اولاً وآخراً كتابة "الحرية". إنها كتابة "قرائية" في معنى ما، اي كتابة لا تلغي ذاكرتها ولا مراجعها إلغاء نهائياً. وهي لا تتمالك في أحيان عن "تشويه" تلك المراجع تشويهاً ايجابياً بغية ترسيخ الطرافة او الدعابة. هكذا يصبح مثلاً الفيلسوف رينه ديكارت الفارس رينه دي كارت. وهكذا ايضاً تغدو آخر جملة قالها فرويد هي: "جوّ حرب". اما القراءة فلا تبدو اقل اهمية من الكتابة بل هي صنوها وربما اشد سحراً. يقول باسكال كينيار في كتابه "الظلال التائهة": "الفتنة التي تمارسها عليّ الكتب هي من طبيعة ستظل طول حياتي اشد إلغازاً وإلحاحاً مما يمكن ان تبدو لدى قراء آخرين". ويقول في هذا الصدد ايضاً: "هناك في القراءة انتظار لا يسعى الى ان ينتهي. ان تقرأ اي ان تتوه. القراءة هي التيهان. حذار الفرسان التائهين! حذار الروائيين التائهين!". قد تذكر هذه المقولات ببعض ما قاله رولان بارت في "لذة النص" لكن باسكال كينيار هو روائي قبل ان يكون كاتباً تائهاً في غابة اللغة والكلام. انه الروائي الذي يتخلى عن ادواته لمصلحة كتابة اخرى تقوم على انقاض العالم، وليست هذه الكتابة الا مثيل "سفينة نوح صغيرة للنجاة من الطوفان"، كما يعبر كينيار واصفاً "المملكة الاخيرة" او سلسلته الجديدة. اما ما دفعه الى التيهان والهروب واللجوء الى "سفينة نوح" الجديدة الا العصر المضطرب بقضاياه التي يبدو بعضها مستعاداً كالحروب الدينية، وعبادة الموت، وديموقراطية العنف... فيما يبدو البعض الآخر منها كأنه آفة يصعب الخلاص منها: اضطراب الفكر، الاضطراب الجنسي، العقل الغائب، ضياع الزمن، ضياع الفن... يبدو كتاب باسكال كينيار اقرب الى المتاهة التي يضيع فيها القارئ للوهلة الاولى، لكنه سرعان ما يجد طريقه وسط هذا "الدغل" من الافكار والوجوه والأسماء والتواريخ. هنا تختلط الامور بعضها ببعض، الزمن غائب والمكان جغرافيا متخيلة، التاريخ اشبه بالحكاية والأسماء او الوجوه تتوالى بلا نسق: الامبراطور تيبار، لوكريس، ديكارت، غيّوم، جين بينغ ماي، وين بيغو، لاوتسو يقول كينيار: "اسمه يعني الشيخ - الطفل، لويس الرابع عشر، سبينوزا، البرهمان، بودا يعتبره كينيار "اسم علم يعني ببساطة: المستيقظ" الامبراطور اوغسطس، هوميروس، آتيلا، فيرجيل، شكسبير، مالارميه، تشوانغ سو، بلوتان، افلوطين، ولتر بنجمان، اميلي برونتي، مارك اوريل، يسوع ينقل كينيار عنه قوله: "مملكتي ليست من هذا العالم"، قيافة، بيلاطوس، ارنست رنان، لافونتين موسوليني، هتلر، فرنكو، جورج باتاي يعتبر كينيار كتابه "الناحية الملعونة" "أحد اجمل كتب الظل" لودفيغ فيتفنشتاين يقول كينيار عنه: "كان اول منظّر لانتفاء اللغة"... أما الروائي الياباني تانيزاكي فيخصه كينيار بفصل ويقول عنه "انه كان يأسف على الظل". ويضيف: "كان تانيزاكي يعبر عن حنينه الى اماكن الرفاهية التي تكاد تكون غامضة في اليابان القديم". ويقول ايضاً: "كان يحب الظلال الضئيلة التي كان يصنعها الشاي في عالمه الدافئ والسائل". وعلى غرار هذه الاسماء ترد اسماء الاماكن والمدن والحضارات والأحداث: روما القديمة، بيرل هاربور، مقتلة بارتليمي بين الكاثوليك والبروتستانت مغارة لاسكو، معتقلات النازية، مقتلة الهنود الاميركيين، انفجار نيويورك، آكاد القديمة، الآردين، جزيرة نوردستراند، فرنكفورت، نهر السين، الاستنساخ... اما التواريخ فمنها مثلاً: 49، 1648، 1618، 1941، 1571، 30، 451، 486، 395، 1999... هكذا تختلط التواريخ والأسماء والأماكن والأحداث عبر اختلاط الفصول او المقاطع من دون اي ترتيب تاريخي او كرونولوجي. لكن كينيار الذي شاء ان يلعب هذه اللعبة استطاع ان يجيدها، فإذا كل مقطع او كل فصل يكتفي بذاته وينفتح في وقت واحد على المقاطع او الفصول الأخرى ضمن هذه المتاهة الرهيبة. هل هذه الكتابة هي كتابة تجريبية؟ قد تكون. ولكنها تنتمي الى الأدب القديم مقدار انتمائها الى الحداثة. ألم يقل كينيار في كتابه: "اتجدد يوماً تلو يوم تبعاً لضرورة محاكاة اعمال القدامى؟" ويقول كذلك: "أحتاج ان اعيد انارة شعلة الموتى. احب ان احيي اعمال القدامى". ولعل مهمة الاحياء هذه، مارسها كينيار خير ممارسة في بعض رواياته السابقة صالون ورتمبارغ، مصطبة في روما، كاروس...، هو الذي يجيد اليونانية واللاتينية ترد عبارات كثيرة باللاتينية في كتابه الجديد والذي يؤثر العيش في "صومعة" الادب القديم من غير ان يهمل ادب العصر. قد يصعب تناول كتاب كينيار الجديد مثلما يصعب تصنيفه وقراءته بالتالي. فما يضمه هذا الكتاب هو مختصر قرون وميتولوجيات وحضارات وتواريخ وأحداث وقد سبك كينيار كلها في لغة متينة ومصنوعة باتقان. وان كان يصعب عرض تلك "المحطات" فإن بعض الجمل والمقولات تعبر عن جوهر هذه التجربة: يكتب كينيار عن الفجر - مثلاً - قائلاً: "اين نحن؟ في وسط الفجر... في الفجر لا تمييز بين المتخيل والحقيقة... اعرف الفجر جيداً. لم أتأخر عنه يوماً... وراء الضياء تقوم العتبة الغامضة..."، ومما يكتب ايضاً: "الاكتشافان الكبيران: المغارة في الجبل، الكتاب في الكلام". وكذلك: "يجب البقاء قرب النبع المندفق..." او: "هناك حياة قبل الولادة التي تؤرخها. هناك عالم قبل العالم حيث انبثق". او: "انه الحلم الذي يعلم ان لا احد يحمله".