الرحلة التي هيأتها مؤسسة "مولا" لتأهيل الشباب ضمّت مجموعة منتقاة من قوميات مختلفة. كان هناك نروجيون وأتراك وعرب وأكراد وأفغان وصوماليون وتاميل. وتعمل المؤسسة على إعداد هؤلاء للدخول في ميادين العمل، كلّ بحسب كفاياته ومجالات العمل التي يميل إليها. والرحلة هذه التي استغرقت اسبوعاً، هدفت الى تحقيق غايتين في وقت واحد: التعرف على المناطق المتنوعة في النروج وقضاء فترة من الترفيه بعد شهور من دورات الدرس والتمرين. رافقتُ المجموعة كمترجم، الى جانب مترجمين آخرين. كانت كريستين، منظّمة الرحلة تعبّر عن فرحها بكل الوسائل. تضحك. تغني. تمازح الآخرين وتدعوهم الى مبادلتها مشاعر الغبطة ذاتها. وفي المركب الذي حملنا من ميناء اوسلو باتجاه جزيرة كالويا الصغيرة رفضت كريستين الجلوس على الكرسي على متن المركب بل خرجت الى المقدمة وراحت تؤشر بيدها في كل الاتجاهات فتعدد اسماء الأماكن في الجهات الأربع وتشرح بحماسة ظاهرة. كان اعضاء المجموعة من النروجيين سعداء بدورهم. وهم بدوا كما لو أنهم ذاهبون الى سطح القمر. ومع ان الرحلة لم تكن الأولى، بالنسبة إليهم، فقد ظهر كما لو انهم يخرجون من سجن. لم يكن احد منهم يريد اخفاء مشاعر الفرح والسعادة التي كانت طاغية في مساحة وجوههم وحركات اجسادهم. وحين كانت كريستين تتحدث وتعدد اسماء الأماكن وتسرد مميزاتها وتحكي عن تاريخها، كان النروجيون الأكثر إصغاء لها وتفاعلاً معها. كانوا كما لو يشرحون جغرافية بلدهم وتاريخه لبعضهم بعضاً. اما الآخرون فقد لاح على وجوههم غياب صارخ، وبدا كأنهم في غفلة عما يجري امامهم. وباستثناء واحد او اثنين، انكمش افراد كل "قوم" على بعضهم البعض ومضوا يتهامسون فيما بدأت عيونهم تفقد البريق الذي كان لاح في اللحظة الأولى حين وطأت اقدامهم سطح المركب. كنا نبذل، نحن المترجمين، اقصى ما في وسعنا كي ننقل الى افراد جماعاتنا اللغوية ما كانت كريستين ترويه في حماسة. وبعد كل فقرة كانت كريستين تراقب الوجوه وتتوقع تبدلاً في السحنات بعد الترجمة، لكن توقعاتها بقيت معلقة في الهواء. بدا افراد المجموعة، من غير النروجيين، لا مبالين إزاء ما كان يجري. وظهرت الرحلة كلها في نظرهم بمثابة تمرين شاق على عمل غير مرغوب فيه. وازداد انغلاق هؤلاء على بعضهم بعضاً بحيث بدت كريستين كأنها تروي كل شيء للنروجيين وحسب. وفي وقت اظهر فيه النروجيون اهتماماً فعلياً بما كانت تقوله كريستين في شؤون الجغرافيا وأحوال التاريخ، بدا الآخرون، من غير النروجيين، وكأن لا شيء يربطهم بأشياء كهذه. ويبدو ان كريستين لاحظت الفتور الذي استمر راقداً على أذهان هؤلاء، فتوقفت لحظة امعنت فيها النظر في الوجوه جميعاً، ثم طلبت ان نترجم السؤال الآتي: - لماذا لا تظهرون رغبة في الاستماع الى ما اقوله؟ حين تلقف الجميع السؤال سرى ما يشبه التململ في الصفوف وأطرق الجميع، على وجه التقريب، برؤوسهم نحو الأسفل، في حين بدرت من فتاة افغانية ضحكة خافتة وتراجعت الى الخلف في خجل وارتباك. قال شاب تركي كان جاء منذ وقت قصير من تركيا وطلب اللجوء في النروج لأن "الحكومة التركية اعتقلته وعذبته بسبب مواقفه اليسارية": ان أموراً كهذه لا تثير انتباهه لأن هناك ما هو اهم منها. وهذه الأشياء "تشغله، في الواقع، عن قضايا جوهرية تشغل باله وانتباهه". - اي قضايا؟ سألت كريستين وقد فتحت عينيها على وسعهما. لم يرغب الشاب التركي في الردّ على الفور، بل هو استدار وراح يحدّق في الأفق كمن لم يعد يعنيه السؤال. وحين بدا الصمت ثقيلاً ومحرجاً تحمست فتاة ايرانية وقالت: "في بلادنا تموت الرغبة في الحياة، الحكومات تجفف ينابيع الفرح في نفوسنا فلا نعود نكترث لشيء". خيّم سكون مفاجئ بدونا فيه كأننا ذاهبون، في ذلك المركب وفي عرض بحر الشمال النروجي، نحو المجهول. ولقد تأثرتْ كريستين بهذا القول فلزمت الصمت، أو أنها ارادت ان تبحث عن شيء ترد به على الفتاة الإيرانية التي تنظر في الوجوه جميعاً. تدخلت فتاة نروجية وقالت ان الحياة لا تتوقف عند لحظة واحدة وأن الأمر يتعلق، الآن، برحلة تجمعهم على متن مركب واحد، ومن المستحسن ان يتم التمتع بهذه اللحظات اعمق ما يكون الاستمتاع. اما صديقها النروجي فوافق على ذلك، وأضاف ان التوقف عند الأشياء المحزنة وحدها أمر يدعو الى اليأس، وانه لا بد ان يتجاوز المرء لا سيما ان الأمر يتعلق بشبان في مقتبل العمر، المحطات المأسوية، فينظر الى المستقبل من خلال مشاعر السعادة التي تقبع راكدة في اعماق كل انسان. لا شيء من هذه المداخلات وقع موقعاً طيباً في جماعة الشباب المنتمين الى قوميات متفرقة لا يكاد يجمعها شيء سوى واقع لجوئها الى النروج والبقاء للعيش هنا. كان الفارق صارخاً بين الحيوية التي تصرف بها الشباب النروجيون وروح الخمول التي سيطرت على الآخرين. ولم تقتصر هذه الحال على جولة البحر ومحاولات كريستين بث روح الدعابة والمرح في الجميع. ففي الفندق الذي خصصته المؤسسة كي تقيم فيه المجموعة، لزم الشبان، من غير النروجيين، غرفهم معظم الوقت. وحين طلبت كريستين من الجميع الاجتماع على باب الفندق للخروج الى الغابة وممارسة بعض الألعاب هناك تردد هؤلاء كثيراً. وفي وقت اللعب ابدت غالبيتهم رغبة في تجنب اللعب. وحين اقترحت كريستين الخوض في لعبة رمي السهام تذرع اكثرهم بذرائع شتى للتهرب من اللعبة. مساء، كانت كريستين ورفاقها من الشباب النروجيين قد استعدوا، افضل ما يكون الاستعداد، لقضاء امسية ممتعة: الأكل والشراب وتبادل الأحاديث. عندما قالت كريستين ان الوقت حان للرقص هبط على الجميع، من غير النروجيين، ما يشبه الصاعقة. وليس من حاجة كبيرة الى القول ان التهرب كان الرقص الوحيد الذي أدّاه هؤلاء. هكذا انصرم الأسبوع الذي كان مكرّساً للترفيه والتسلية والتعارف. تردّد وتمنّع وتهرّب وتذرّع. وحين عاد المركب وحمل الجميع على متنه من جديد بدا كما لو ان الأمر يتعلق برجوع من جبهة الحرب.