لم تعرف النروج كبلد للهجرة، لا سيما بالنسبة الى العرب الذين لم يلجأوا اليها في السابق بأعداد كبيرة طلباً للرزق ولبدء حياة جديدة ومواطنية ثانية. فبلاد الهجرة كانت حتى وقت قريب أميركا الشمالية واستراليا وبعض أوروبا الغربية حيث كانت سبل الهجرة اليها لا تزال مفتوحة. ولكن في السنوات الأخيرة، أخذت هذه الدول، خصوصاً في أوروبا، تقفل باب الهجرة لأسباب اقتصادية وسياسية ذاتية، ما شجع على ظهور نوع جديد من المهاجرين، أخذ يطغى على غيره من أنماط، تجلى في ظاهرة "اللجوء السياسي الجماعي" بديلاً من الهجرة الاقتصادية، موهت في أحيان كثيرة هجرة دافعها اقتصادي في الدرجة الأولى. وبرزت النروج، باعتبارها دولة غنية ذات سياسة غير منحازة وباحثة عن السلام العالمي، ملاذاً لطالبي اللجوء من كل الأنواع ومن أنحاء عدة، وقادرة اقتصادياً على استيعاب نسبة من "المقهورين". وكانت أبوابها مفتوحة في وقت من الأوقات لمن ساقته الظروف أو المنظمات الدولية نحو هذه الواحة، قبل أن تقرر سلطاتها ان هذا البلد الصغير بحجمه، وبعدد سكانه الذي لا يزيد كثيراً على الأربعة ملايين نسمة، من بينهم أكثر من 230 ألفاً من المهاجرين احصاءات أول كانون الثاني/ يناير 1997، على رغم اقتصاده المزدهر، غير قادر بدوره على استيعاب كل "بؤس العالم" بحسب التعبير الذي أطلقه مسؤولون فرنسيون منذ الثمانينات، فأخذت تنظم الهجرة اليها وتقنن في سياستها الانسانية. فشبح البطالة أخذ يطل على المجتمع النروجي، يتغذى بأفواج من المهاجرين الأجانب أو المتجنسين الذين لم تتوافر لهم فرص عمل لأسباب ذاتية أو اقتصادية نروجية، ويتهددهم التهميش. فقررت سلطات النروج اعتماد علاج يوقف "النزف"، مخضعة سياسة الهجرة واللجوء الى تدابير أكثر تشدداً وانتقائية. حكايات يشير "المكتب المركزي النروجي للاحصاءات" الى أن عدد سكان النروج بلغ في أول كانون الثاني يناير 1998 4.418.400 مليون نسمة، كان عدد المهاجرين بينهم في أول العام 1997 أكثر من 232 ألف نسمة، يحتل العرب ضمنهم نسبة لا يستهان بها، أبرزهم المغاربة والعراقيون واللبنانيون والسوريون... ومن بين هؤلاء من استقر منذ سنوات تصل أحياناً الى الثلاثين، فاستقرت أوضاعهم على هذا الشكل أو ذاك، ومنهم حديث العهد نسبياً، تعود هجرته الى السنوات العشر الأخيرة، وهي الفترة التي شهدت وصول عدد كبير منهم الى النروج بسبب الأحداث الدامية في مناطق عدة من العالم العربي، أو لأسباب اقتصادية. وحكايات الهجرة والمهاجرين العرب كثيرة ومتنوعة يرويها لك أصحابها أو من عرفهم أو من تناهت الى أسماعه هذه المرويات. تلتقي شباناً من أصل عربي في وسط أوسلو، فيحدثونك فوراً عن ذاك الطبيب الصومالي الذي لجأ الى النروج هرباً من حرب أهلية تعصف ببلاده، فلم يتمكن من معادلة شهاداته ولم يجد عملاً، في حين "تستورد النروج أطباء من السويد وغيرها من البلدان الاسكندينافية"، على حد قول يوسف 18 سنة، وهو بدوره لجأ مع عائلته الفلسطينية من سورية. والحق يقال ان هذا الشاب لا يجهل هذا الموضوع. فأبوه مهندس لم تعترف السلطات النروجية بشهاداته، ما اضطره الى العمل موزعاً للبريد. لكن ذلك لم يمنع يوسف الذي وصل الى النروج قبل ثلاث سنوات من المفاخرة بالشوط الذي قطعه حتى الآن. فشعوره بالانتماء الى هذا البلد لا شك فيه، واطمئنانه الى مستقبله هنا لا يختلف عما يفكر به أترابه النروجيون، واندماجه في هذا المجتمع "مصيري لأنه الملاذ الوحيد بعد لجوء أبي العام 1948 الى مخيم اليرموك، وهجرة العائلة أخيراً الى النروج". رفىق، أيضاً في الثامنة عشرة من العمر، يحمل الجنسية النروجية بحكم ولادته هنا من أبوين سوريي الأصل لم يعانيا مشكلة اندماج. فالأب هاجر منذ سنوات طويلة الى المانيا، ومن ثم الى النروج حيث استقر وأسس عائلة من ولدين، كبيرهما رفيق الذي يحضّر البكالوريا تمهيداً للتقدم الى مباراة الدخول الى كلية الطيران الحربي النروجي إذا اجتاز الاختبار الطبي الصارم الذي يخضع له الطامحون للانتساب الى كلية النخبة هذه. في جلسة بين هؤلاء الشبان الذين يجهلون العقد والتعقيدات التي يعيشها اخوانهم في البلدان العربية، تأتيك أخبار الجالية، خصوصاً تلك التي تهم جيلهم الشاب. فيحكون لك عن ألاعيب بعض العرب لاستغلال سخاء التقديمات الاجتماعية، أو عن "عراقي يهرِّب عرباً الى النروج لقاء مبالغ كبيرة، فيدخلهم البلاد خلسة ليطلبوا لجوءاً، غالباً ما يجابهه الرفض"، أو عن عصابة "بي غانغ"، نسبة الى سيارات "بي. ام. في" التي يستعملها شبان من أصل باكستاني في غالبيتهم، للمتاجرة بالمخدرات، والتي تمكنت شرطة أوسلو أخيراً من اكتشافها، فاعتقلت أفرادها، وأخذت ترحل من لا يحمل الجنسية النروجية الى بلاده... حضور عربي تتجول في شوارع أوسلو الرئيسية، وهي بغالبيتها تتقاطع مع شارع كارل يوهان قلب العاصمة النروجية النابض بحركة وحياة لا يتوقفان، فتصادف الكثير من العرب والباكستانيين الذين اختلطوا بالنروجيين والسياح الوافدين من الدول الاسكندينافية، وحتى بأميركيين من أصل نروجي أتوا لزيارة بلاد الآباء أو الأجداد. وليس من النادر خلال التجوال ان تصادف مطعماً أو مقهى يحمل اسماً عربياً. فمطعم "الأمير" مثلاً يطل على شارع كارل يوهان، وغير بعيد منه ومطعم "علي بابا" أو "بيروت" حيث يمكنك تذوق السندويتشات اللبنانية. وفي شارع قريب، تجد مقهى ومطعم "حبيبي" الذي يديره الفلسطيني محمد أحمد منذ سنة ونصف السنة، بعد أن عمل باحثاً اجتماعياً لدى إدارة اللاجئين في الصليب الأحمر في أوسلو. زبائنه من النروجيين خصوصاً، يتذوقون القهوة العربية والموسيقى الشرقية. تكيف واندماج غالبية من التقيتهم في أوسلو من مهاجرين ولاجئين من أصول عربية، تكيفوا مع المجتمع النروجي واندمجوا فيه من دون ان يتخلوا عن جذورهم أو روابطهم العائلية أو العاطفية التي بقيت في الوطن الأول. ندى، سيدة من لبنان، استقرت في أوسلو قبل عشرين سنة، بنت خلالها حياة ذات نوعية لم تكن متوافرة في سنوات الحرب في لبنان، توجتها بانجابها طفلتين من زوج نروجي من أصل عربي، وحين افتقد الزوجان تفاهمهما وقررا الطلاق، رحلت ندى بولديها الى لبنان حيث أمضت ثلاث سنوات، أعادت خلالها بناء ما تحطم من حياتها. فتزوجت كامل وبدأت حياة جديدة. لكن ولديها لم يتكيفا مع المجتمع اللبناني ومع كبار السن في العائلة، خصوصاً الصبي المراهق، علاوة على شوقهما لأبيهما في النروج. ويوم اقنعاها بتمضية الصيف في أوسلو الى جانب الأب، كانت ندى شبه متأكدة من أنهما سيفضلان البقاء في النروج. لكنها رضيت بالمغامرة، واصطحبتهما لتجد في نهاية ذاك الصيف أنهما قررا فعلاً البقاء هناك، لدى أبيهما الذي تزوج ثانية، إذا اقتضى الأمر. فكان أن عادت الى لبنان لتصفية أعمالها، وعاودت الهجرة الى النروج، مع زوجها الذي نال حق الاقامة بفضل جنسية ندى النروجية. وعند وصولهما الى أوسلو قبل أشهر عدة، وجدت ندى أنها خسرت الكثير من حقوقها، لا سيما ما تعلق منها بالمساعدات الاجتماعية بسبب انقطاعها ثلاث سنوات عن البلاد. فاضطرت للقيام بكل المعاملات من جديد، وأقامت في فندق من دون ولديها اللذين بقيا في عهدة أبيهما، ريثما يتوافر للعائلة مسكن لائق. وهي اليوم في مرحلة انتقالية، بانتظار توافر فرصة عمل ثابت لزوجها الذي يتهيأ لدراسة اللغة النروجية قبل أن يحق له التقدم طلباً للعمل. وهي ليست نادمة عل "مغامرتها" اللبنانية على رغم الخسارة المادية التي لحقت بها بسببها. فهي، علاوة على إعادة تركيب العائلة بزواجها الثاني، فخورة باكسابها ولديها اللغة العربية باللهجة اللبنانية التي يتقنانها اليوم، الى جانب النروجية، وباستعادة الروابط العائلية في لبنان، بعد أن كانت تباعدت خلال سنوات اقامتها الأولى في النروج. تلك بعض حكايات الهجرة واللجوء الى النروج. منها لمن لقي حظاً أوفر من غيره، وأخرى لأفراد على طريق بناء مستقبل جديد في بلاد جديدة، وأخيراً، حكايات من تكالبت عليهم ظروف دفعت بهم الى الانهيار، مثال ما روي لي في آخر يوم من زيارة أوسلو، عن عائلة عراقي شهدت صعوداً الى القمة وانهياراً الى الحضيض بسبب خطأ ارتكبه وعوقب عليه. فهذا المهندس، كالعادة، لم يجد مجالاً للعمل في مهنته، ورافقه الحظ، فتمكن بفضل ثقة المصارف التي ادانته مبالغ كبيرة، من افتتاح متجر مأكولات ومشروبات حقق نجاحاً مالياً، أمن للعائلة مستوى معيشياً مرتفعاً، وامتلكت، بالتقسيط، بيتاً في حي راق من ضواحي أوسلو، وسيارة مرسيدس فارهة. لكن صاحبنا ارتكب غلطة لا تغتفر في النروج، حين باع لمراهقين دون السن القانونية مشروبات كحولية، فصودرت رخصة متجره، واضطر الى الاقفال ليتمكن من تسديد غرامة مالية باهظة. وسرعان ما انقضت المصارف على ما يملك حين عجز عن سداد استحقاقاته المالية، فبيعت جميعاً بالمزاد العلني، ووجد نفسه، مع عائلته، في الحضيض. وهو اليوم مقعد بسبب نوبة قلبية اصابته، يعيش من "معاش" تقاعدي من الهيئات الاجتماعية، بينما وجدت زوجته عملاً كمترجمة الى العربية في منظمة دولية.