منذ أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 والحرب الأميركية على أفغانستان، أخذ الحديث عن الصراع بين الغرب وخصوصاً الولاياتالمتحدة والإسلام جرعةً اضافية، فانهالت كتابات تصوّر التناقض بين المجتمعات العربية والإسلامية والمجتمع الأميركي - بل المجتمعات الغربية عموماً - تناقضاً ثقافياً ودينياً، ووجدت في كثير من سوابق الصدام في العراق، وأفغانستان، والسودان...، وفي كثير من الكتابات الغربية أو من تصريحات مسؤولين في حكومات أميركا وأوروبا، مادة مناسبة للاحتجاج بها على صواب تعيين الصراع إياه بالشكل الذي ذكرناه. وتكاد هذه القراءة تصبح - اليوم - القراءة الوحيدة الممكنة، بل "الصحيحة"، لنوع العلاقة القائمة بين مجتمعاتنا والغرب الرأسمالي! من نافل القول ان كتابات غربية عدة أسهمت في تعبئة الوجدان العربي - الإسلامي بعقيدة التناقض الثقافي والديني، وخصوصاً تلك التي اكتسبت شهرة وفشوّاً بسبب تماسكها المنطقي وحاملها الأكاديمي مثل دراسة صموئيل هنتينغتون عن "صِدام الحضارات". غير أن الذي لا ينبغي تجاهله ان المثقفين العرب والمسلمين قدّموا اسهاماً أبكر في انتاج موضوعة التناقض الحضاري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية: المسيحية - اليهودية. وليس قليلاً ما كتبه، في هذا المعنى، أبو الأعلى المودودي، وأبو الحسن الندوي، وسيّد قطب، وعبدالسلام ياسين، وآخرون، لم يجدوا في العلاقة بين "الحضارتين" من حاكِم سوى التناقض والصدام. وتشكل كتابات هؤلاء - وخصوصاً الثلاث الأُول منهم - المادة الثقافية التي تَغَذَّى منها جيلان من "الصحوة الإسلامية": جيل عمر عبدالرحمن، وعبود لزمر، وسعيد حوَّا، وعبدالسلام فرج...، وجيل تنظيم "القاعدة" قيادةً ومحازبين، ومن ذهب مذهبهم من القارئين في هذه الأفكار والمؤمنين بها. يشكل هذا التعيين الايديولوجي للصراع بأنه صراع بين الغرب والإسلام، أي صراع "ثقافي وديني، نكوصاً وتراجعاً فادحين عن فهم أعمق للتناقضات بين مجتمعاتنا وبين دول الغرب نَضجَ في حقبة ممتدة من القرن العشرين: منذ انهيار الامبراطورية العثمانية ودخول الاستعمار الى ديارنا الى انهيار الاتحاد السوفياتي وعودة الاستعمار الى بلداننا من جديد. وسِمَةُ ذلك الفهم النظرُ الى الصراع ذاك في مرآة مصالح طرفيه: العرب ودول الغرب. ففيما يدافع الأولون عن استقلالهم الوطني، وسيادة دولهم، وتحرّر أوطانهم، وحقوقهم في ثرواتهم، وطموحهم الى تحقيق وحدتهم القومية، ينازعهم الغرب في ما سعوا فيه من منطلق مصالح دوله في ثروات المنطقة العربية، وفي اضعاف قدراتها الاستراتيجية حتى لا تهدّد حليفه ووكيله الاقليمي: الكيان الصهيوني. لم تكن الحركات الوطنية والقومية واليسارية والنخب الحاكمة - بسائر ألوانها وأشكالها - ترى في الغرب القائم تمثيلاً لحضارة مسيحية - يهودية، أو عدوّاً لا هدفَ له سوى ضرب عقيدة الأمة وثقافتها، وانما رأت فيه عدوّاً استعمارياً يتربَّص بمصالحها واستقلالها وسيادتها ويحالف عدوها الأول: الدولة الصهيونية. وما كانت دول الغرب ترى في العرب مسلمين معارضين لحضارتها ينبغي "تأديبهم" وردعهم عن تهديد قيمها الحضارية "الكونية"، وانما ترى فيهم أعداء سياسيين يدافعون عن مصالح وحقوق تُضِرُّ بمصالحها. كان التعيين دقيقاً من الطرفين. ولم يكن أحدٌ منهما يخطئ تقدير الموقف في رؤيته للثاني. اليوم اختلف الأمر كثيراً في النظر الى الأشياء: لا من جانب الغرب كما يدعي بعضٌ من مثقفينا، بل من "جانبنا" نحن، أو قُلْ - على وجه الدقة - من جانب كثيرين ينصّبون أنفسهم للحديث باسم الأنا الجماعية للعرب والمسلمين. ينتمي هذا التراجع في وعي العلاقة بين مجتمعاتنا وبين الغرب الرأسمالي الى أوضاع ثقافية أو فكرية انتجها التفكير من داخل اشكالية الهوية. القائلون بالصراع الثقافي والديني ناظماً وحيداً - وحاكِماً أوحدَ - للعلاقة - ينطلقون من مواقع دفاعية تراجعية عن الذات في مواجهة زحف حقائق العصر الحديث، ومنها السيطرة الغربية على العالم بأشكال مختلفة من العنف: المادي والرمزي. ليس في حوزة هؤلاء أجوبة سياسية واقتصادية عن التحديات التي أنجبها تفوُّق الغرب وزحفه: منذ الاستعمار التقليدي حتى العولمة. الجواب الوحيد الذي في مُكنتهم جواب ثقافي جاهز، يستلونه من مدونة اسلامية وسيطة كانت - يا للمفارقة - أجابت بشجاعة عن مشكلات عصرها. ومن لا يملك غير هذا الجواب الثقافي - الديني عن مشكلات هي من طبيعة سياسية واقتصادية وعلمية، يحسبُ أن المشكلات هذه من طبيعة ثقافية ودينية! اشكالية الهوية نكوصية بطبيعتها وغير قادرة على تزويد صاحبها برؤية تاريخية فاعلة. انها لا تنطلق من السؤال: كيف أقتحم وأصنع وأتقدم وأُجابِه التحدي من دون رجوعٍ الى مواقع خلفية؟ بل تنطلق من السؤال: كيف أحفظ ذاتي من التبديد، وكيف أصونها مما قد يستهدف تغيير جوهرها الذي تقوم وتتقوَّم عليه؟ ومن الطبيعي أن مثل هذا السؤال الأخير يضع صاحبه أمام الجواب الوحيد: الدفاع عن الذات. وما دام المدافع في موقع ضعيف في التوازن، فإن دفاعه يكون أشبه بالقتال التراجعي الى القواعد الخلفية" أي يصبح انكفائياً ومتشرنقاً على النفس متوسِّلاً بماضٍ مرجعي. لم تكن هذه حال العرب والمسلمين في العصر الوسيط - الذين يستدعيهم اليوم خطاب الهوية الدينية والحضارية - كانوا قادرين على حماية حضارتهم وعقيدتهم من دون أن ينسحبوا من العالم والتاريخ، ومن دون أن يقاطعوا حضارات وثقافات غيرهم، ومن دون أن يروا في الغير مجرّد ماكر شرير يتربّص بهم الدوائر. وكان الآخر يعيش كافراً بجوارهم من دون ان يلتفتوا اليه، لكنهم حاربوه بقوة ودافعوا عن ممالكهم حين هدَّد مصالحهم وكياناتهم. سيقال انه لا قياس مع الفارق، فهؤلاء كانوا في وضع قوة تسمح لهم بغير ما تسمح به أوضاع الضعف التي عليها نحن اليوم. طيب، لنأخذ مثالاً ممن يشبهنا أو تشبه أوضاعه أوضاعنا: المثقفون الإصلاحيون العرب والمسلمون في القرن التاسع عشر. كانت صدمة هؤلاء بالحداثة والغرب والتفوق الأوروبي الكاسح أكبر من صدمتنا. ومع ذلك، لم تكن اشكاليتهم هي اشكالية "الصحويين": كيف نحافظ على ذاتيتنا؟ وانما كانت: كيف نتقدم وننهض، وكيف ننخرط في العصر الحديث؟ وكان خطابهم الإصلاحي النهضوي من ثمار ذلك السؤال وجواباً مميزاً وايجابياً عنه. فأين دعاة "صراع الحضارات" من هؤلاء الذين حاوروا المستشرقين بجرأة وتوسلوا بأدوات المعرفة للدفاع عمَّا هم مقتنعون به؟ نعم، من باب الأمانة العلمية أن نتفهم الأسباب التي تدعو هذه النخب الثقافية الإسلامية الجديدة الى الاعتصام بفكرة الهوية، والى انتاج هذه الترسانة من الأطروحات الايديولوجية عن الخصام الحضاري بين الإسلام والغرب، وهي أسباب تقع في نطاق شروط الصراع بين غرب الاستعمار والهيمنة وبين مجتمعات الإسلام المعاصرة - ويحتاج وعيُها وتفهُّمها الى مقاربة مختلفة تتوسل بمناهج علم الاجتماع السياسي ومفاهيمه - ومع ذلك، فإن الأمانة العلمية ذاتها تقتضي القول ان امعان خطاب الهوية الدينية والثقافية في رفض النظر الى مسألة العلاقة بين الغرب والمجتمعات العربية والإسلامية إلا من خلال قناتها الدينية - الثقافية يرتب نتائج بالغة السوء على صعيدين: على صعيد بناء رؤية صحيحة للعلاقة إياها، وعلى صعيد اختيار السياسات المتعلقة بمعالجة آثار تلك العلاقة. * كاتب مغربي.