هذه المقالة لا يمكن أن تبدأ قبل كتابة السؤال التالي: هل هناك خطاب حداثي متخف في السلفية التقليدية المتشددة..؟ وهل هذا الخطاب لديه رغبة أكيدة في الظهور لو أتيحت له الفرصة، هذا أولا، أما ثانيا فهذه المقالة معارضة لمقالة كتبها الباحث المغربي (الحسين الإدريسي) حول (السلفية المندسة في الخطاب الحداثوي). خطاب الحداثة خطاب يمكن القول عنه انه خطاب مرن يستطيع أن يتكيف مع الواقع الثقافي للمجتمع، ولكن بشرط أن يتفق المجتمع على الصيغة التي يظهر بها هذا الخطاب من خلال البناء المجتمعي بجميع مكوناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما يجب القول أن الخطاب الحداثي في العالم الإسلامي تعرض إلى تعريف سلبي ويحتاج إلى موجة توعوية كبيرة لتحقيق الردة عن كون الحداثة أمر (محرم)، فإشكالية خطاب الحداثة الدائمة تكمن اضطراب الواقع الاجتماعي الذي يبدو متناقضا مع نفسه في فهم الحداثة قبل أن يتناقض مع الحداثة نفسها. الصراع الذي يطرح الحداثة والخطاب الديني في مسار متناقض هو صراع يتحمل مسؤوليته ذلك الكم الهائل من التراث، وتلك التفسيرات المتضاربة والتيارات التي تخلق دائما خطا متوازيا للحداثة والتقليدية وتؤكد استحالة التقائهما في مساحة تفسير الواقع والثقافة، مع العلم إن السلوك الذي بنيت عليه الحضارة الإسلامية التي يعترف بوجودها التيار التقليدي كان سلوكا حداثيا ولو لم يكن كذلك لما تحققت الحضارة. وهنا يجب التنبه إلى الأزمة الحقيقية التي يقع فيها أصحاب الكتابات التقليدية وهي أنهم ينفون الحاجة إلى أي مساهمة تطويرية (حداثية) من الآخرين ويجزمون بوجود الحلول الحضارية مختبئة في التراث دون الإشارة إلى كيفية استخراجها. الخطاب التقليدي يتمسك كثيرا بمرجعية تاريخية تكبل مفرداته فلا يستطيع أن يطرحها بشكل مباشر، ولكنها تختفي في رغبته الدائمة بتجاوز التقليدية، ولكنه دائما ما يفتقد الوسيلة المناسبة والسبب أن معادلة المصالح تعجز عن الانفكاك من مربطها الفكري كما أن مدلول التجاوز والتجديد يواجه بخوف غير مبرر مقرون بإدعاء تاريخي حول عدم الدخول في مسار الاجتهاد والتجديد. كثير من الكتابات والخطابات التي يطرحها ممثلو التقليدية الدينية في مجتمعاتنا تختفي في براثنها خطابات حداثية عصرانية عاجزة عن الظهور في سياق الصورة والخطاب، هذا المشهد يمكن ملاحظته من خلال كتابات كثيرة يعود بعضها إلى بدايات القرن العشرين والتي كانت جريئة للإفصاح عن نموذجها الحداثي، ومن ذلك على سبيل المثال كتابات الشيخ محمد عبده والشيخ علي عبد الرازق، هذان الشيخان كشفا عن مسار حداثي خفي في الخطاب التقليدي يمكن الاستفادة منه ولكن هذا المثال يكشف عن سؤال مهم حول من يرفض (الحداثة) هل هو التراث أم التقليدية أم من؟ من المستحيل أن تستمر مقاومة التقليدية دون أن تختفي في براثنها رغبة في الحداثة وفق معطيات العصر الذي تعيش فيه، والتقليدية دائما ما تفشل في الصمود والمقاومة لذلك فهي إن أجبرت على التحديث فهي تلد طفلا (حداثيا) مشوهها وهذا ما يمكن أن يحدث في مرحلة أساسية قد يحدث فيها نقلة نوعية لإدخال التعديلات على التقليدية السائدة لصالحها أولا قبل كل شيء، ولكي تكون الصورة واضحة حول إمكانية ولادة مشوهة للحداثة أعيدكم إلى المحاولات التحديثية التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر عندما ظهرت مصطلحات سطحية (قبول الآخر - الوسطية - تعايش الأديان) وكيف ستكون نتائجها وفقا للمعطيات التي صاحبت قبول هذه المصطلحات في المجتمع. يقول علماء الاجتماع وتحديدا في قضية علاقة الدين بالعصرانية في المجتمعات الغربية (إن نغمة -تراجع الدين- التي كانت سائدة في الستينات أصبحت - عودة الدين - في التسعينات الميلادية)، هذه العودة ما زالت تشق طريقها وخاصة في المجتمعات الغربية وهنا يجب الإشارة إلى أن المسيحية على اعتبار أنها الدين السائد في الغرب سوف تعيد علاقتها مع الحضارة، وستعمل على بناء نموذج من التكيف الجديد شهدنا ملامحه في تقارب العلاقة السياسية الدينية في نماذج مختلفة من دول الغرب، وقد تكون السرعة الحضارية هذه المرة اكبر من قدرتنا على تحديد نوعية العلاقة التي نبحث عنها مع هذه الحضارة. الذي يهمنا هو علاقة مجتمعاتنا بالحداثة والتي يجب أن نفصل فيها بين أمرين الأول هو أننا مجتمعات ليست لنا علاقة بالعصرانية من حيث إنتاج الحضارة، والسبب أننا لم ننتجها فالعصرانية حالة اجتماعية خاصة بالمجتمعات الغربية. الأمر الثاني علاقتنا بالحداثة تتشكل من خلال ما يسمى (الغربنة) أو (التغرب) (westernization)، وهذا هو المحور الذي جعلنا في حالة استثنائية من حيث ممارسة الحداثة والتعاطي معها، وهناك فرق كبير بين المدلولين فالعصرانية بالنسبة للغرب هي إنتاج الحضارة وتطور الشعوب بينما (الغربنة) بالنسبة لنا هي معادلة الاستفادة من الحضارة تحت عنوان الحداثة أو ممارسة استثمار المعطيات الحضارية بشكل إيجابي. هناك رغبة خفية في تمثيل الحداثة من خلال التمني بأن هذه الحضارة ملك للمجتمعات الإسلامية وليس (الغربية) ويظهر ذلك أيضا جليا في حرب السلفية التقليدية على القيم الأخلاقية الغربية واتهامها الدائم بأنها خلف المؤامرات التي تحاك ضد الأمة الإسلامية مع العلم أن العلاقة السياسية الدينية في الغرب لم تبدأ بشكلها المشاهد اليوم قبل التسعينات الميلادية. أزمتنا التي نعاني منها ليست في العصرنة ولو كانت كذلك لأمكن إبداع نسق ثقافي مجتمعي يستوعب هذه العصرنة، ولكن الشرط الوحيد لهذه التكيف غير موجود فنحن لم نصنع حضارة ذات أبعاد سياسة واجتماعية واقتصادية، نحن كما أسلفت أزمتنا هي فهم مصطلح (التغرب) وكيفية تجلية السلبية عنه. مواجهة الأفكار الحضارية الغربية بطريقة خاطئة هي التي جعلتنا نعيش في سياق مضطرب من عدم وضوح الرؤية، وهذا ما انعكس على مؤسساتنا الاجتماعية والاقتصادية. التقليدية وجميع حركاتها التي حاولت أن تبرهن أنها حركات تجديدية للتقليدية مثلا (الإخوان المسلمون، جماعات الجهاد القاعدة الصحوة) نشأت في مجتمعاتنا بسبب بروز التحضر في جانب آخر من الأرض بعدما فقدنا إمكانية صناعة التحضر، وهنا نأتي إلى سؤال جديد يقول لماذا نحن نتصارع على الحضارة الغربية وماذا نريد منها....؟ هل هي رغبة الحداثة التي تسكن مسارنا التراثي ونرفض الإفصاح عنها بحجة أن التقليدية هي التوازن الوحيد للبناء الاجتماعي الخاص بنا كمسلمين. هذا سؤال ليس بالإمكان الإجابة عليه دون حوار مع ذاتنا التقليدية وذواتنا الحداثية أولا، أزمتنا مع الغرب تتنازعها رغبة خفية في الخطاب التقليدي نحو الانفتاح على (الغرب) ومعضلة مستحيلة تقول نأخذ من الغرب ما نريد بينما الحقيقة أننا لا نستطيع أن نفرض على الحضارة الغربية ما نريد منها، إلا إذا كانت العملية قضية إنجاب لطفل مشوه. نحن لا نريد أن نعترف بشكل علمي ومنهجي تقبل الحضارة على المستوى المادي ونرفضها على المستوى الفكري لذلك نحن نستخدم منتجاتها ونستعين بصناعتها، ولكننا لا نرغب في تفسير لماذا نحن نستخدم هذه الحضارة إلى حد الهوس بينما تبقى أسئلتنا معلقة في الجانب الفكري لتستجدى جرأة الحداثة التي تختفي في براثن التقليدية ليتم الإعلان عنها، ومن هذه النقطة سوف يكون الانطلاق لمقال قادم.