أكانت مصادفة، ان اختار وزراء خارجية دول الاتحاد الاوروبي، قصر أمير الدنمارك "هملت"، لعقد اول اجتماع لهم، مع انتقال رئاسة الاتحاد الى الدنمارك. محاطين بالايحاءات التي يحملها هذا القصر الذي استلهم من شكسبير مسرحيته الشهيرة، هملت، ليطرح في اروقته سؤاله الوجودي الاشكالي" "أكون... أو لا أكون، تلك هي المسألة"! ومع ان الوزراء الذين اجتمعوا في المكان الشديد الايحاء، قد ابتعدوا عن ظلال الماضي، لينغمروا بوهج الحاضر الشديد السخونة... إلا أن عبارة هملت، لا بد انها مرت في اخيلتهم، فاستقرت عند بعضهم، وطردها آخرون، لكن الجميع فرحوا من دون ان يجيبوا على تساؤل هملت... والذي ربما ظلت اوروبا تطرحه على ذاتها متفرقة ومتحدة على طوال الامتداد الزماني والاتساع المكاني للسياسة الدولية، في العقود الماضية، من التهاب العالم بالأزمات. لكن في هذه المرحلة من تاريخ العالم... يصبح اكثر إلحاحاً عليها... او ربما ان الاطار المكاني، اثار عندهم تداعيات زمانية وتاريخية، فاستذكروا مثلاً" ان نابوليون عشية معركة واترلو... سأل قادة جيشه: - ماذا تراني اترك لابني غداً؟! أجاب احد القادة: - تترك له المجد... يا سيدي... وبعد المعركة، كان نابوليون يصرخ فوق اكوام الجثث: - اخرجوني من هذا المسلخ... اذ كان هنالك اكثر من ستين ألف قتيل في ساحة المعركة. وخرج نابليون، من دون ان يترك مجداً لابنه، بل ترك قارة تتلوى تحت انقاض الحروب الفاجعة، التي قادها وراء حلمه بعظمة زائفة. وطوى حلمه على نفسه، وحيداً مهزوماً منفياً، في جزيرة سانت هيلانة... ومات فيها بجرعة من السم دسها له احد ضباطه. وبعد ما يقرب من قرن ونصف القرن من وفاة نابليون، قاد هتلر حروباً عنصرية شرسة، وبأسلحة افتك، وراء غطرسة عرقية... تركت القارة نفسها تحت ركام حروب ماحقة، تئن وتلملم جراحها وأنقاضها... بينما كان هتلر ينسحب من الحياة برصاصة رحمة، تبادلها مع عشيقته في قبو مخبئه، وأنهى بهذه الرصاصة ملحمة غطرسة. وأبقى فوق مخبئه، برلين مقسمة... بين معسكرين... وأوروبا ممزقة. إذ ظلت القارة زمناً تعاني آثار حروبه المدمرة، وظلت مقسمة متشظية... لا تملك زمام امرها، بيد موحدة. لقد اذاقت القارة الاوروبية، خلال القرنين الماضيين، العالم كله فواجع التسلط الاستعماري. ولكنها وقعت هي ذاتها مرات عدة، تحت سطوة الحروب الفاجعة بين دولها، المتناحرة على السطوة واقتسام مناطق النفوذ. حتى لم تعد هذه القارة، التي تسمى بالعجوز، على رغم بهائها الظاهري، تحتمل انسياقها الى حروب مدمرة اخرى. من هنا تنتشر وتعلو فيها الاصوات الشعبية الداعية الى السلام... ومعارضة الحروب ونبذها. فعدا عن الحس الانساني المشترك، في مواجهة نوازع التسلط والهيمنة... فإن شعوب اوروبا ما زالت تملؤها الهواجس... وتعكر رؤاها الكوابيس من اية حروب مدمرة... وهي تنظر الى مناطق النزاع الساخنة بكثير من التوجس والخوف... وإن كانت لا تملك الكثير من الاحجار على رقعة الشطرنج الدولية، إلا أنها تسعى الى التوازن في نتائج هذه اللعبة الخطرة حتى لا تنقلب الرقعة كلها فوق رأس العالم وتدمره بحرب اخرى. خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي... وانضواء الكثير من جمهورياته السابقة في الاتحاد الاوروبي. ومن المهم، تفهم هذا الخوف الاوروبي من النزاع في الشرق الاوسط، خصوصاً ان هذه المنطقة المتفجرة تطل على القارة عن قرب، عبر امواج البحر الابيض المتوسط الذي تجاوره جغرافياً، اضافة الى تداخل المصالح بينها وبين دوله وشعوبه. فقد كان الابيض المتوسط، على امتداد الزمن، بحر الفصل الجغرافي، والوصل التاريخي. وإذا كانت زعامات اوروبية قد ادخلت القارة سابقاً في اتون الحروب الفاجعة، فمن المهم التذكر ان الحركة الصهيونية التي ترعرعت في الحضن الاوروبي، والكيان الاسرائىلي الذي ثبتت اولى ركائز وجوده بوعد من دولة اوروبية، هذه الحركة وهذا الكيان، وهؤلاء الحكام، هم الذين يضعون العالم اليوم على شفير الهاوية وحافة الحرب. وإن كان تاريخ اوروبا قد دان من قادها من زعمائها الى الدمار، فإنها وهي تسترد وعيها التاريخي، لا بد من ان تسعى الى عدم السماح لزعماء دمويين عدوانيين جدد، بدفع العالم كله من جديد الى هاوية دمار ماحق. ومن هنا لا بد من فهم اهمية الدور الاوروبي في دفع المنطقة ومناطق العالم الاخرى، نحو السلام العادل، وإن كان التحرك ليس بعد بمستوى اهمية هذا الدور، حيث ما زالت القارة تقف ساكنة وعاجزة امام حليفتها الولاياتالمتحدة التي تتسلط وحدها على اوراق الحل، وتدفع العالم عبر هذا التسلط الى المآسي الفاجعة. لقد كانت أميركا قادرة على إشعال الحروب في العالم، خارج اراضيها، وان تفرض على دول وشعوب العالم، ان تحمّل ضحاياها فاتورة حروب هيمنتها، بينما تمزقت اوروبا دائماً تحت وطأة الحروب والدمار. فمن المهم لأوروبا ان تفرض نفسها، وتضغط باتجاه تحقيق السلام، وان تمارس دورها كاملاً، لدفع الخطر عن القارة نفسها، وتجنيب العالم نيران الحروب التي اكتوت هي ذاتها بنارها. فأوروبا السياسية العجوز المحنكة، هي صاحبة المقولة التي لا تكترث في السياسة العالمية بالمواقف المبدئية الدائمة، بل بالمصالح الدائمة... فليكن تحركها اذاً على هذا الاساس. ولعل الاتحاد الاوروبي، برئاسته الدنماركية، وقد عقد اولى جلساته في قصر هملت، يستذكر مقولة صاحب القصر الشهيرة... لتطرح اوروبا على نفسها... التساؤل" تكون او لا تكون، وتجيب عليه، بوضع ثقلها في تقرير مصير عالمنا... بدفعه الى سلام عالمي عادل... لا لحل محنة هملتية خاصة... بل من اجل مستقبل بشري وانساني أفضل... وأكرم. * كاتب من الاردن.