أخضع العالم، في السنوات العشرة الأخيرة، بعد تقوض الاتحاد السوفياتي لقوة عظمى وحيدة، هي الولاياتالمتحدة التي سعت إلى الاستفراد بالهيمنة على العالم، ونجحت في مسعاها هذا، متسلحة بقوة عسكرية هائلة، وموازنة عسكرية مذهلة تبلغ 400 بليون دولار سنوياً. إن "النظام العالمي" القائم الآن هو نظام أميركي، فلا عجب إذا تحدث المثقفون الأميركيون - وهم يتأملون المشهد الدولي الراهن - عن "امبراطورية أميركية" أكثر قوة واتساعاً من الامبراطوريتين الرومانية والبريطانية اللتين تحكمتا بمصير العالم في الماضي. ما تريده الولاياتالمتحدة هو التحكم المطلق بعالم "أحادي الاستقطاب". ولم يخفِ الرئيس بوش، حينما تحدث في نهاية الشهر الماضي عمّا سماه "عقيدة الأمن الأميركية"، ان الهدف الأساسي للولايات المتحدة هو الحيلولة دون صعود أي منافس محتمل لها في المستقبل، سواء كان الصين أو روسيا أو الاتحاد الأوروبي، أو أي دولة أخرى، أو أي مجموعة من الدول المتحالفة. وما تسعى إليه هو أن تُطلق يدها في الدفاع عن مصالحها القومية الحيوية وطبعاً مصالح حليفتها إسرائيل، باستخدام العمل الآحادي أو الحرب الاستباقية أو الوقائية، حيثما تدعو الضرورة إلى ذلك، من دون التقيد بالقانون الدولي، ولا بالمعاهدات القائمة التي ما زالت سارية، مع الاستهانة بسيادة دول أقل قيمة وقوة وبمصالحها الحيوية. ثم ان الولاياتالمتحدة مستمرة في حربها ضد شبكات الناشطين الإسلاميين على امتداد العالم، إذ ترى فيها، بعد هجمات الحادي عشر من أيلول سبتمبر، أخطر تهديد تتعرض له، يمس مباشرة أمنها ويستهدف التقليل من تفوقها. مساومات مجلس الأمن ولكن حدث شيء غريب لم يكن بالحسبان، فقد أخفقت الولاياتالمتحدة في الأسابيع الستة الماضية، في أن تحقق ما كانت تصبو إليه. وبعدما كانت أفصحت عن رغبتها في إطاحة نظام صدام حسين يقدم على أنه نظام يُهدد العالم "المتحضر" بكامله، بالاعتماد على أدلة هزيلة وشحيحة، بدأت استعداداتها العسكرية للهجوم على بغداد، لكن حليفتها بريطانيا، ومعها آخرون، نجحوا في اقناعها بضرورة الحصول على "نوع من الشرعية الدولية" لتبرير حربها، ويتم ذلك باستصدار قرار جديد من مجلس الأمن. وهنا بدأ الإشكال الحقيقي، ففي الأسابيع الستة الماضية، وعلى رغم التذكير بأن صبر الولاياتالمتحدة قد نفد، وعلى رغم الغطرسة العسكرية ومحاولات الابتزاز الاقتصادي والتهديدات بالقيام بتحرك عسكري منفرد، أخفقت واشنطن حتى الآن في الحصول على القرار المطلوب من مجلس الأمن. كان على الولاياتالمتحدة أن تتحمل مشاحنات لا نهاية لها في مجلس الأمن حول نص القرار المقترح. وقد استبعد أي نص يمكن أن يُفسر أنه يعطيها الحق "الآلي" في الهجوم على العراق في حال اعاقته عمل المفتشين الدوليين. وفشلت، إضافة إلى هذا، في فرض شروط تعجيزية على مفتشي الأسلحة كان العراق سيرفضها في حكم المؤكد. وكلما طالت المساومات في مجلس الأمن حول هذا الموضوع أظهرت الولاياتالمتحدة وقاحتها وبان عجزها. لقد قادت فرنسا معارضة المطالبة الأميركية بمساندة ما من روسيا. كما انتزعت الديبلوماسية الفرنسية العناوين الرئيسية في أجهزة الإعلام العالمية، سواء في موقفها في مجلس الأمن، أو في قمة الفرانكوفونية في بيروت، حول العراق، أو الصراع العربي - الإسرائيلي، أو الحرب الأهلية في ساحل العاج، وبرز الرئيس جاك شيراك على المسرح نجماً صاعداً. طبعاً من السابق لأوانه الادعاء بأن الهجوم الأميركي على العراق قد استبعد، إذ ما زالت الحرب تبدو كأنها حقيقة: هناك ما لا يقل عن ست حاملات للجند تتجه إلى المنطقة، و350 طائرة حربية على أهبة الاستعداد، والتجهيزات والمعدات العسكرية تتدفق، وهناك 60 ألفاً من الوحدات الأميركية موجودة في منطقة الشرق الأوسط. وكما قال مصدر أميركي بكل صفاقة: "الخيارات هي حرب بغطاء من الأممالمتحدة أو حرب بلا غطاء من الأممالمتحدة". لكن فرنسا نجحت في خلق "فترة توقف" تمكنت خلالها القوى المعارضة للحرب أن تنظم صفوفها داخل الولاياتالمتحدة وفي العالم بأسره. ويحق للرئيس شيراك، عن جدارة، أن يدعي بأنه كبح ولو إلى حين، اندفاع الولاياتالمتحدة نحو الحرب. ويمكن الزعم بأن ثقباً قد خرق "الرؤية الأميركية لعالم احادي الاستقطاب" وان الآمال في قيام نظام ثنائي الاستقطاب أكثر اتزاناً وعدلاً، بدأت تتصاعد، وإن كانت لا تزال شاحبة. ويبدو أن فرنسا تقدم رؤية بديلة، أو على الأرجح، نموذجاً بديلاً من النموذج الأميركي: ففي مقابل رسالة أميركا الداعية إلى الهيمنة الكونية الشاملة بالاعتماد على القوة العسكرية السافرة، يبدو كأن رسالة فرنسا تدعو إلى الحوار، والتعددية الثقافية والسياسية واحترام حقوق الإنسان وحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، لا بالتدخل العسكري المنفرد، أي التضامن الدولي مع الضعفاء والفقراء، وفوق كل شيء آخر، الدعوة إلى التطبيق الدقيق للقوانين الدولية. وفيما كان شيراك في بيروت يشدد على ضرورة تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي على أساس القوانين الدولية والعدالة، وكان يمتدح خطة السلام العربية التي تقدم بها الأمير عبدالله ولي العهد السعودي، كان جورج بوش في واشنطن يعد آرييل شارون بأن يعلمه بموعد الهجوم الأميركي على العراق، ويؤكد له أن الولاياتالمتحدة ستحمي إسرائيل ضد أية ضربة صاروخية عراقية. وتؤكد تقارير خاصة أن بوش وعد شارون بأن يرد على "حزب الله" وسورية وإيران، إذا تجرأت على القيام بأي هجوم على إسرائيل. ومما زاد الطين بلة الزعم بأن إسرائيل تسعى إلى الحصول على 10 بلايين دولار كمساعدات، إذ كان بوسع شارون أن يدعي أن العلاقات الأميركية - الإسرائيلية لم تكن أكثر تلاحماً من الآن. شارون يتلقى المال الأميركي، والسلاح الأميركي، لمتابعة حربه الاستعمارية ضد الفلسطينيين، لكنه يرفض مشاريع السلام التي تقترحها عليه واشنطن، بين الحين والآخر، بخجل وفتور. وحينما سُئل عن رأيه في "خريطة الطريق" التي ستؤدي، في نهاية المطاف إلى قيام دولتين، إسرائيل وفلسطين، أجاب بازدراء حسب رواية وليام سافير في صحيفة "نيويورك تايمز" تاريخ 21 تشرين الأول/ اكتوبر: "العرض الأميركي جاء في ست صفحات ومكتوب بخط صغير ولم تتح لي قراءته". هذا هو حليف الولاياتالمتحدة الاستراتيجي في المنطقة! في انتظار أوروبا الموحدة إذا اتيح للاتحاد الأوروبي وروسيا أن يوحدا جهودهما الديبلوماسية فقد يخلقان قوة ضاغطة مؤثرة تقف في وجه الولاياتالمتحدة، كما ظهر واضحاً في مناقشات ومداولات مجلس الأمن، في الأسابيع الماضية. لكن الاتحاد الأوروبي - كما يعرف الجميع - أبعد ما يكون عن الاتحاد. ومما يخجل أن تكون بريطانيا الدولة الأوروبية الخارجة عن الطوق في هذا الاتحاد! وعلى رغم أن لا مصلحة لبريطانيا في مهاجمة العراق، وأن توني بلير، رئيس الوزراء، الذي يتحرك بطيش واستهتار سواء في ما يتعلق بمستقبله السياسي أو في ما يتعلق بسلامة مواطنيه، كما يتعرض لمعارضة شديدة من أكثر مؤيديه في حزب العمال، ما زال ينادي بالحرب. بالحماسة ذاتها التي ينادي بها بوش، وما زال وزير خارجيته، ذو وزن الريشة، جاك سترو، يكرر شعارات "الدول الشريرة، والدول الغاشمة، وتهديد العالم المتحضر"، وهي شعارات ابتدعها اللوبي الأميركي المناصر لإسرائيل. انني اتساءل هل من الحضارة في شيء أن تطلق الولاياتالمتحدةوبريطانيا 300 طن من اليورانيوم المنضب على العراق خلال حرب الخليج، على شكل أغلفة للقنابل والقذائف التي القيت، ثم حرمان العراق من الأدوية والتجهيزات الطبية الحيوية والضرورية لمعالجة آثار السرطان الرهيبة التي ظهرت في ما بعد في أجسام أطفاله؟ سيسعى الزعماء الأوروبيون، في نهاية هذا الأسبوع، في بروكسيل، إلى التوصل إلى اتفاق على التمويل المستقبلي للاتحاد الأوروبي الذي سيرتفع عدد أعضائه من 15 إلى 25 دولة في السنة المقبلة، وسيصبح مجموع عدد سكانه 450 مليوناً. وهناك دولتان ستنضمان إلى الاتحاد، رومانيا وبلغاريا العام 2007. في حين لا تزال تركيا تطرق أبواب الاتحاد. هناك الكثير من التسويات المؤلمة التي لا بد من الموافقة عليها، لتمويل التنمية الاقتصادية في الدول الجديدة التي ستدخل الاتحاد، وعلى بريطانيا أن تتخلى عن جزء من مساهمتها في موازنة الاتحاد التي كانت مارغريت ثاتشر أمنتها حينما كانت رئيسة للوزراء. كما يجب على فرنسا أن تقبل بخفض مساعدات الاتحاد إلى مزارعيها والتي كان معمولاً بها سابقاً. لكن القضية الأساس هي أن أوروبا تتحرك باضطراد نحو وحدة أكبر وأشمل، وتبذل جهوداً ضخمة للتوصل إلى سياسة أمنية وخارجية موحدة. إن تحقيق المصالحة بين مصالح هذا العدد الكبير من الدول، سواء كانت كبيرة أو صغيرة ليس بالأمر السهل، لكن المردود سيكون المزيد من القوة والتأثير الفعال في شؤون العالم. ويمكن القول إن عالماً يقوم على الاستقطاب الثنائي بدأ يلوح في الأفق، وسيكون قادراً على الوقوف وجهاً لوجه أمام المطامح الامبريالية للولايات المتحدة. لكن ما تفتقده إعادة تنظيم شؤون الكون الجديد، هو الدور الواضح الذي سيلعبه العرب والمسلمون. إنهم بحاجة ماسة إلى أن يصبحوا قوة متماسكة في العالم، قادرة على أن تعرض عضلاتها السياسية والاقتصادية والايديولوجية. ولكن لا وجود لمثل هذه القوة في الوقت الحاضر. والانطباع السائد هو أن العرب ما زالوا يعانون من الانقسامات والتناقضات، بل ان بعض الدول العربية، خصوصاً في الخليج، يساند الولاياتالمتحدة في عدوانها المخطط على العراق. ويتساءل المرء في حيرة: متى سيهب الزعماء العرب والمسلمون للدفاع عن مصالحهم بأنفسهم من دون انتظار المدد من جاك شيراك والمستشار غيرهارد شرودر الذي رفض رفضاً قاطعاً مشاركة بلاده في أية مغامرة أميركية ضد العراق؟! * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الأوسط.