احد الأوجه الغريبة والمقلقة للحياة السياسية في المملكة المتحدة والولايات المتحدة على السواء هو ما تتمتع به من قوة ونفوذ حفنة من المفكرين الذين نجحوا في كسب انتباه متعاطف من جانب رئيس الوزراء او الرئيس. ولا يهتم مثل هؤلاء الاشخاص بتعزيز افكار المسؤولين في الحكومة، بل يدعون انهم يخوضون غمار تفكير "مجرد" متحرر من قيود الادارة والحساب الروتيني. في بريطانيا، يجلس اللورد بيرت، المدير العام السابق المثير للجدل لهيئة الاذاعة البريطانية "بي بي سي"، في مكتب رئيس الوزراء في "10 داوننيغ ستريت"، حيث يتولى تطوير خطة استراتيجية ملحة لقطاع النقل على رغم انه يفتقر الى معرفة تفصيلية بالموضوع. وكان ونستون تشرتشل يتلقى المشورة خلال الحرب العالمية الثانية من اللورد تشيرول، بروفسور الفلسفة التجريبية في جامعة اكسفورد. ووصفه الفيلدمارشال لورد ويفل في مذكراته ب"ذلك العجوز المزعج" بعدما اكتشف من خلال تجربته المريرة ان الكثير من افكار البروفسور كانت غير عملية اطلاقاً او سخيفة تماماً. ويبدو الرئيس بوش، الذي وصل الى البيت الابيض قادماً من ولاية تكساس حيث كان حاكماً، وكانت لديه معرفة ضئيلة جداً بالشؤون الدولية واستراتيجية الدفاع، عُرضة بشكل خاص لتأثير بضعة مفكرين من المحافظين الجدد الذين ينبغي ان يتعامل معهم بقدر كبير من الشك والتحفظ. ومن بين هؤلاء المفكرين بول د. وولفويتز، الذي تربطه بالرئيس علاقة وثيقة ويسميه "وولفي". وعلى رغم انه يشغل حالياً منصب نائب وزير الدفاع فانه كان محللاً في البنتاغون وقدم المشورة لفريق بوش خلال الانتخابات الرئاسية. ونفوذه في البيت الابيض يفوق بكثير ما يؤهلّه له منصبه الرسمي، فهو مهندس سياسة اميركا تجاه العراق. وكان ولفوفيتز اشار منذ 1979 الى ان العراق يمثل خطراً على جيرانه، خصوصاً الكويت والسعودية، ويهدد إمدادات النفط لاميركا من منطقة الخليج. في البداية، دعا عالم الرياضيات اليهودي هذا الى تقديم الدعم للمعارضة العراقية بدلاً من استخدام جبروت اميركا. وبعد اعتداءات 11 ايلول، اخذ يدفع في اتجاه جعل فكرة تغيير النظام هدفاً لادارة بوش وزج اميركا في حرب من اجل تحقيقها. وقال بيل كيلر في صحيفة "ذي تايمز" في 3 تشرين الاول اكتوبر الماضي ان "ولفوفيتز أخذ منذ 11 ايلول دور المتعصب. وسرعان ما وصف بكونه من الصقور ... وبانه مفكر محافظ، ومؤيد للتدخل الأحادي، وخصم شرس لوزير الخارجية كولن باول. ووصف في بعض الاحيان بانه مهووس باسرائىل". ويربط ولفوفيتز صدام حسين بالارهاب بالاستناد الى استضافته لأبو نضال الذي قتل اخيراً، والدعم المالي الذي يقدمه للفلسطينيين الذين يهاجمون اسرائيل ولعائلاتهم. وهو يريد ان يحول العراق الى نقطة انطلاق للديموقراطية في العالم العربي، ولا تقلقه كثيراً المشاكل التي تثيرها الديبلوماسية الدولية بوجه نمط تفكيره. نال ولفوفيتز مكانته باعتباره "مفكر البيت المبرّز" - حسب وصف احد اصدقائه - بفضل تركيزه الطويل والعميق على مواضيع تهمه وتنسجم مع اسلوب التحليل الذي يعتمده. وهو يحاول ان يوازن بعناية بين اكلاف التحرك ضد صدام حسين في المستقبل القريب واكلاف تأخير مثل هذا التحرك. ومن بين الوجوه الجديدة التي اثارت انتباه الرئيس بوش الدكتور إليوت كوهين من جامعة جون هوبكينز. وقد نُشر له للتو كتاب بعنوان "القيادة العليا"، وهو يدور حول زعماء مدنيين يحققون نجاحاً عسكرياً لبلدانهم. ويتناول الكتاب شخصيات من بينها ابراهام لينكولن وونستون تشرتشل وديفيد بن غوريون. وتحدث الدكتور كوهين عن المنافع التي يمكن ان تجلبها اطاحة صدام حسين وازالة اسلحة الدمار الشامل التي يملكها. وقال "اولاً، انها تسمح لنا ان نخرج من السعودية، وليس من السليم الاحتفاظ بوجود عسكري هناك لانك اذا اطلعت على بعض كتابات بن لادن، ستجد ان اول شيء يثير جنونه هو وجود الكفار في السعودية. الشيء الثاني الذي يثير غضبه الشديد هو معاناة الشعب العراقي. لقد فرض صدام هذه المعاناة، لكننا بصراحة جزء منها ايضاً. ثم يتأمل المرء ويقول ان الاردن سيكون في وضع افضل بكثير اذا كانت هناك دولة صديقة ومؤيدة نسبياً لأميركا على جانبه الشرقي، بدلاً من عراق صدام. وستصبح سورية اكثر إنقياداً بكثير، وقد تكون الحياة اسهل بالنسبة الى الاتراك. واخيراً هناك الأمل في ان يترك ذلك تأثيراً مفيداً على ما يجري في ايران". ويتبنى الدكتور كوهين وجهة النظر التي ترى ان تردد العسكريين الاميركيين هو الذي خذل اميركا في الفترة الاخيرة، بكلامهم عن استنزاف امكانات القوات المسلحة وعدم وجود استراتيجية مخرج بعد اطاحة صدام حسين ومشاكل اعادة بناء العراق. من السهل ان نرى دوراً لرجال مثل ولفوفيتز وكوهين، وان نقدّر اهمية التفكير الجديد في مراكز السلطة، لكن ما اعترض عليه هو انه سُمح لهم بامتلاك نفوذ اكبر مما ينبغي. فهو يفوق ثقل وخبرة كل سفراء اميركا مجتمعين في الشرق الاوسط. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.