يبدو الموضوع الفلسطيني الآن من ضمن الشواغل الأساسية للنخبة الثقافية في بريطانيا. فعلى مدار الشهور الماضية انقسم الرأي العام الثقافي في بريطانيا بين مؤيد لإسرائيل ومؤيد للفلسطينيين، وتبادل الكتاب الاتهامات على صفحات الصحف البريطانية على خلفية هذا الانقسام في الرأي. لكن من يتابع ردود فعل المثقفين في بريطانيا في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية يلاحظ أنه على عكس ما يحدث في أميركا فإن النخبة الثقافية البريطانية بدأت تتفهم بعمق جذور الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتأخذ موقفاً واضحاً ضد إسرائيل من دون أن تتخوف من الاتهام باللاسامية. صحيفة الإندبندنت البريطانية وزعت على عدد كبير من رجال القلم في بريطانيا استفتاءً. وقد صممت الصحيفة الاستفتاء على غرار استفتاءين سابقين، الأول أجرته مجلة ليفت ريفيو اليسارية عام 1937حول الحرب الأهلية الإسبانية، والثاني نشرته دار نشر سايمون وتشوستر عام 1967 وتركز على موقف المثقفين في بريطانيا وأميركا من حرب فيتنام. وقد انقسم كتاب بريطانيا وأميركا في مواقفهم من الحرب الأهلية الإسبانية وحول الوجود الأميركي في فيتنام. لكن الاستفتاء الحالي الذي أجرته صحيفة الإندبندنت وتنوي نشره في كتاب قريباً لا يحمل هذا الانقسام الحاد" فعلى رغم أن عدداً من الكتاب الذين سألتهم الصحيفة امتنعوا عن المشاركة، فإن المشاركين ال 35 عبروا عن رؤيتهم للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بصورة توضح تحولاً هائلاً في النخبة الثقافية البريطانية حيال واحدة من القضايا التي كان فيها تأييد إسرائيل صاعقاً قبل سنوات قليلة. كان السؤال على النحو الآتي: مَنْ تعتقد أن قضيته عادلة بالفعل، والجواب: أ - الإسرائيليون وقادتهم. ب - الفلسطينيون وقادتهم. ج - لا أعرف. الأجوبة كانت لافتة في تفهمها لحق الفلسطينيين وعدالة قضيتهم. فمن بين 35 من المستفتين أجاب 17 من كتاب بريطانيا باختيار "الفلسطينيون وقادتهم" فيما أجاب أربعة فقط ب"الإسرائيليون وقادتهم"، أما الباقون الذين أجابوا: "لا أعرف" أو بالاعتراض على صيغة السؤال، فإن معظمهم أخذوا الجانب الفلسطيني شارحين وجهة نظرهم التي ترى أن الفلسطينيين تعبوا من فقدان الأمل وعلى إسرائيل أن ترحل. ثمة تحول دراماتيكي في رؤية القضية الفلسطينية في بريطانيا إلى الحد الذي يقول فيه كاتب يهودي بريطاني من المستفتين، هو جون بيرني، إنه "يشعر الآن بأنه فلسطيني"، فيما يقول الشاعر الإيرلندي الشمالي توم بولين: "أؤيد قيام دولة فلسطينية. إن كاتباً بحجم جوناثان سويفت أو بريمو ليفي يمكنه أن يصف الفظاعات التي يسمح للحكومة الإسرائيلية بارتكابها". أما إيسثر فرويد فتقول: "إنها بالفعل من أكثر التجارب ضراوة: أن تهين شعباً، وتواصل الاعتداء عليه لفترة زمنية طويلة حتى يولد جيل يشعر أنه لم يعد لديه ما يستحق العيش من أجله، ليشرع في حينه في استخدام حياته كصرخة ونداء للمساعدة". ويؤيد فرويد بنيامين زيفانيا الذي يرى أن "الفلسطينيين ليسوا ملائكة، ولكنهم شعب محتل يريد أن يستخدم كل الوسائل الضرورية لاستعادة حريته. إنهم شعب فقد الأمل". وتذهب مارغريت درابل في الاتجاه نفسه عندما تقول: "الفلسطينيون بلا حول أو قوة، بلا دولة، بلا أمل... وعلى المرء أن يتعاطف مع شعب تجاهله التاريخ في صورة مأسوية". أما الروائي إيرفاين ويلش فيقول: "لقد تعلم الإسرائيليون على أيدي النازيين. الفلسطينيون يعانون. من الذي ينبغي أن يعيش هناك؟ هناك متسع للطرفين، متسع للجميع". في ضوء هذه الإجابات نلاحظ كيف يمكن أن يتحول المزاج العام لشعب من الشعوب، لا مزاج الكتاب فقط، لوجود أشخاص مؤثرين وإعلام يتفهم طبيعة المعاناة الفلسطينية" فالمثقفون البريطانيون كانوا على مدار الأشهر القليلة الماضية في صورة ما يحصل في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولم تستطع الدعاية الإعلامية الصهيونية، والتهديد المستمر بتهمة اللاسامية لكل من ينتقد سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية، أن يوقفا موجة التعاطف مع الفلسطينيين. وقد أثارت تصريحات توم بولين ضد الصهيونية، وهجومه المستمر على ما تفعله إسرائيل، حنق مؤيدي إسرائيل في بريطانيا، وأعادنا الاهتمام برأي المثقف في ما يجري حوله إلى أيام مضت كان فيها المثقف صانعاً للرأي العام في الغرب، ما يعني أن التربة الثقافية البريطانية مهيأة لاتخاذ مواقف غير مسبوقة في خصوص القضية الفلسطينية يمكن أن تؤثر في صانع القرار السياسي. فهل تتحرك المؤسسات الثقافية العربية الغارقة في النوم منذ عقود وعقود، ويسعى المثقفون العرب، وعلى الأقل أولئك الذين يتخذون من الغرب مسكناً لهم، إلى تشكيل رأي عام بين المثقفين في الغرب يبصر المثقفين في الغرب بالكارثة التي تجرها إسرائيل على نفسها وعلى الفلسطينيين؟