عن "دار الثقافة" بالدار البيضاء، صدر للشاعرة المغربية عائشة البصري ديوان في عنوان "مساءات" وتأتي قصائد هذا الديوان تأكيداً لمقولة جون كوهين أن "الشعر ليس لغة جميلة، لكنه لغة لا بد للشاعر من أن يخلقها، ليقل ما لم يكن من الممكن أن يقوله بطريقه أخرى". فلغة الديوان تطرح - بداية - البلاغة التقليدية، لتؤسس "شعرية التقرير"، حيث تصبح الصورة الكلية هي الغاية، واللغة التداولية هي الوسيلة. والديوان يشتمل على مجموعة من "الموتيفات"، التي تشكل أفقاً للنص الشعري، كما انها تمثل بنيات دلالية لهذا النص، وتتمثل تلك البنيات في مجموعة من الدوال اللغوية، التي تتردد كثيراً داخل الديوان، مثل: الليل بمشتقاته المساء - الليلة - العتمة، وأضداد الليل المتمثلة في: القمر - النهار - الضوء، ثم هناك الدال الثالث الذي يتخذ وضعاً وسطاً بين الليل وأضداده وهو: الظل، الذي يعد منطقة وسطاً بين الضوء والعتمة. وسوف نكتفي هنا بتحليل بنية الليل بمشتقاتها داخل الديوان، باعتبار ان هذا الدال هو الأكثر وروداً به، كما انه الأعمق أثراً في سيرورة التجربة الشعرية. إن المفهوم المعجمي لكلمة "الليل" يدل على أنه واحد بصيغة الجمع، ومفرده "ليلة". كما ان المردود المعجمي لكلمة "مساء"، يقدم تعريفاً سلبياً له، باعتبار أنه المضاد للصباح. وبذلك، فإن المعاجم لا تقدم مفهوماً لمفردة "الليل" أو مشتقاته، إلا من خلال التقابل بين الواحد الليل والكثرة الليالي، أو بين المساء الظلام ونقيضه الصباح النور. وهذه التعريفات السلبية تعني بالأساس انفتاح تلك الدوال وغموضها، في آن واحد. ومن الطبيعي حين تكون القصيدة استدعاءً لتجربة باطنة، تتميز بالغموض كما تنفتح على التأويلات المختلفة، بل والمتناقضة، أن تستدعي بنيات دالة على طبيعتها، لذلك، فإنه عندما يكون عنوان الديوان هو "مساءات" فإن ذلك يعني تشديداً على تلك النتيجة، التي تختزل التجربة الشعرية الى جدل العلاقة بين الضوء والعتمة، او وحدة المتناقضات بين الجزء والكل، ويصبح عنوان الديوان استدعاء مباشراً لدلالته المعجمية، بما تشتمل عليه من تناقض. المجال الشعري من الواضح ان "المساء" باعتباره تعبيراً عن العتمة، و"الليلة" باعتبارها مفردة الليل، عادة ما يستدعيان - وفي شكل ضمني - هذه المفردة، باعتبارهما تجليين لها، وقد تأسس الفعل الشعري داخل الديوان على هاجس اساسي: ان الليل هو الذي يؤسس هذا الفعل، بل ويؤثر به بعد تحققه، بينما توابع الليل المساء - الليلة لا يشكلان سوى اطار لتأثيرات الفعل، أي انهما مجرد مجال دلالي لحركة الليل بامتداد الديوان، وما يخلقه من فعل شعري. وبتتبع الصور التي تشتمل على لفظة "المساء"، سنكتشف ذلك. نجد أن لفظة "المساء" في الديوان لا تشكل الفعل، بل هي مجرد مجال لحركة التجربة الشعورية: مراودة السرير، الموت الخطأ، حزن القمر، طيور السنونو، اندماج ليلين، فتح باب العودة، تسرب الظل. لذلك، فإنه عند استبعاد كلمة "المساء" او حتى استبدالها، فإن الفعل الشعري لن يتأثر، إذ أنه يتحرك عبرها من دون أن تؤثر به. وبذلك، فإننا يمكن أن نعد "المساء" أشبه بالعامل المساعد في الكيمياء، الذي يساعد على اتمام التفاعل، من دون ان يدخل به. وما ينطبق على لفظة "المساء"، ينطبق - كذلك - على لفظة "الليلة": - الليلة ايقنت انني / لم أكن إلا لأكونك... هذه الليلة / بعدها أعيد لك جسدك ... هذه الليلة / أنفاس الليل باردة ... اعطني من عمرك ليلتين / ليلة للحلم وليلة للحكي/ ليلة واحدة لا تكفي... فإذا ما قمنا بتحليل الأمثلة السابقة، سوف نصل الى تلك النتيجة، وهي ان "الليلة" مجرد مجال لحركة الفعل، وليست خالقة له أو مؤثرة به، خصوصاً أن الشاعرة تستخدمها احياناً في بداية السطر الشعري، مسبوقة باسم الاشارة هذه، ما يؤدي بها الى التحديد داخل ظرف الزمان وحده، الذي يتحقق من خلاله الفعل. وحين يتعلق الأمر بلفظة "الليل"، فإنها تخرج على وظيفتها الظرفية الصرفة، لتتخذ ادواراً نحوية مختلفة، تؤكد جميعاً خلق الفعل داخل الجملة الشعرية. فالليل قد يقوم بدور المبتدأ: ليل باريس/ حزن وردي، لا ينام، أو يتخذ شكل الفاعل: أخاف ان يسجنني هذا الليل. وقد يتخذ هيئة المفعول به، الذي يقع عليه الفعل، فيؤثر به: ... امرأة وحيدة.. تلوك بالانتظار ليلها. ومن الوظائف النحوية الأخرى، التي تعمق دور "الليل" في خلق الفعل الشعري أو التأثير به، أن يقوم بدور المضاف اليه. ففي هذه الحال، تنضاف فاعلية المضاف الى دلالة "الليل"، لتقوي من تأثيره في الفعل، كما في صورة على أجنحة الليل عاد فإضافة الى قدرة الليل على الإعتام، يؤازره المضاف، إذ يمنحه القدرة على الطيران والتحليق، ومن هناك يستطيع الليل أن يخلق فعل العودة. على أن هناك صورة شعرية تتكرر مرتين يأتي فيها الليل في وضع المضاف اليه: خلف نافذة الليل/ ظل يراودني، وأسأم من ظل لا يشبهني.. أرميه من نافذة الليل. فالعلاقة الاساسية في الصورتين، تجمع بين الظل ونافذة الليل، وما يجمع بينهما إما: فعل المراودة او السأم. أما اضافة النافذة الى الليل، فتؤدي الى تحول الليل ليصبح عالماً بأكمله، بينما النافذة تمثل بوابة للعبور اليه، وبذلك، فإن فعل المراودة او السأم لا يتحقق الا من خلال نافذة الليل، التي تشكل معبراً للفعل باتجاه تحققه. وهكذا، فإن "شعرية الليل" في ديوان "مساءات"، هي شعرية الدخول باللغة في العتمة، لإضاءة التجربة الشعرية، من خلال مفردات تستدرج قارئها الى شرك الغواية، حيث العلاقة الضد بين الضوء والعتمة هي القوة.. وهي الفعل.