لا شيء في مقهى "الروتوندا" يغري العين أو يحرك عجلة الزمن الراكدة، لا شيء إطلاقاً سوى يأس معشش في الزوايا وعلى الوجوه، وصمت ثقيل يعكره صوتُ مذيع تلفزيوني يعلن عن إضرابات ومطالب عمالية بلكنة تشبه أزيز منشار حديد في لحم طري، وستة زبائن أو سبعة من مهاجرين عرب متكئين بتثاقل على المشرب يجرعون الجعة ويدخنون سجائرهم بحركة ميكانيكية. وفي الخارج مطر، مطر، مطر غزير لا ينقطع، ليس ذلك الصنف من المطر الذي يحرّك مواطن الطفولة او الغرابة، إنه ذلك المطر الذي يبلل الأطراف المرتعدة ويجمّد الحياة في العروق، وأنا جالس وحدي أنتظر "لور" التي ستأتي بعد نصف ساعة، جيوبي فارغة إلا من قطعة معدن من فئة الاثنين يورو ولا أعرف إن كانت تكفي لدفع ثمن القهوة. باختصار، لحظات ثقيلة، وكل لحظة تذكرك بوجود مزرٍ، تهمس لك بأن العمر كابوس ثقيل وأن الحياة فخ مرعب مطبق عليك من كل الأطراف. فجأة لمحت رجلين يتمشيان على مهل على رغم المطر الغزير. غجريان من غجر رومانيا، أحدهما في يده عكاز منسجمة مع ساقين أفكحين والثاني يعتمر طاقية سوداء منسجمة تماماً مع بشرة حنطية سمراء ووجه معروق. لمحتهما من خلف الواجهة الزجاجية يتحدثان بالألسن والأيدي وعضلات الوجه. دخلا المقهى ضاحكين. دنا احدهما من المشرب وكوّم امام النادل كومة من قطع معدن صفر وطلب بلغة غير مفهومة وبالإشارات كأساً لشخصين. طلب ثانيهما سيجارة من زبون واقف عند المشرب وتناوبا على تدخينها بشبق وفرح كأنهما طفلان لا يريدان ان يكبرا. خرجا ضاحكين غير آبهين بالمطر المنهمر، قطعا الشارع غير عابئين بالسيارات المسرعة والناس من حولهما راكضة خوفاً من البلل أو باحثة عن مأوى. وفي لحظة ما بين الشك واليقين. تهيأ لي ان الشمس تنسل بخجل من بين اكوام الغيوم الرمادية وترمي اشعتها على طاولتي، لم أدر هل ان ذلك حصل فعلاً أم انني توهمت حصوله، وبلمحة بصر صحوت من غفوتي، انقلبت من كائن جامد ثقيل الى كينونة مفعمة بحنين عتيق وطاقة مفاجئة، اخرجت قطعة الاثنين يورو من جيبي ورميتها على الطاولة، خرجت من المقهى كالممسوس، بلا شعور مني وجدتني ألاحق الغجريين، قبل ان يذوبا في زحمة الأرجل الراكضة، مضيتُ أمشي على كل حال في الشوارع، غير آبه بالنقمة الهابطة من السماء، تسكعت على مهل غير عابئ ب"لور" التي تنتظرني ولا بالضباب الذي يلف المدينة ولا بالموت الذي يلف كل شيء.