قد تسعف الذاكرة كثيرين فيسترجعون شطراً من أيام الطفولة عندما كانت أمهاتهم تحذرهم من الغجر الذين «يخطفون» الأطفال. أو يستعيدون منظر امرأة حادة التقاطيع ذات أساور غريبة وثياب فولكلورية وهي تجلس القرفصاء على قارعة الطريق وقد نشرت أمامها خرقة مهلهلة فوقها خرز ملون وحبات من الرز أو الحنطة أو الشعير تتمتم بكلمات غير مفهومة وقبالتها شخص متلهف إلى سماع وتصديق كل ما تقول. وقد يتذكر كثيرون مناسبة استدعي إليها الغجر ليحيوا حفلة ختان أو عرس على وقع الصناجات وقرع الدفوف. فمن هم هؤلاء الغجر الذين تختلف الروايات في أصلهم؟ يعيد بعض المؤرخين أصل الغجر إلى عصر السلالات الأولى، إلى نسل قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وهناك من يعيدهم إلى سلالة النبي نوح، من ابنه يافث الذي هو أبو الغجر، مثلما يعتبر الابن سام أبو الساميين. وقيل إنهم جاؤوا من بلاد النوبة ووادي النيل، وذكرهم الفيروزآبادي في ملحمته «الشاهنامة» ونسبهم إلى الهند التي انطلقوا منها إلى أفغانستان ثم إيران حتى بحر قزوين ووصل بعضهم إلى الخليج العربي ثم وادي الرافدين واتجهوا بعد ذلك إلى تركيا واليونان وشبه جزر البلقان وصولاً إلى أوروبا. ويتفق معظم الذين كتبوا عن الغجر على أنهم غلاظ الأكباد، أشداء، ومثيرو فتن. ولعل هذا يفسر ما تعرضوا له عبر حقب التاريخ من ظلم واستعباد. حيث كانوا قديماً مُلكاً للنبلاء والقادة لهم عليهم سلطة الحياة والموت، وكان غذاؤهم شحيحاً وعيشهم بائساً وبيوتهم كزرائب الحيوانات، وكانوا يمارسون قسراً أعمال السخرة الصعبة والمهنية، ويعرضون للبيع في المزاد العلني، وكان عقاب من يتمرد منهم - أو يهرب - عسيراً حيث يقيد بالسلاسل ويتعرض لصنوف التعذيب. ولعل إثارتهم للفتن والشغب، صفة غلبت عليهم في معظم الأقطار التي حطّوا رحالهم فيها. يذكر المؤرخ ابن الاثير في كتابه «الكامل» يقول: استقر «الزط» في البطائح بين البصرة وواسط، وازدادت سطوتهم وقويت شوكتهم أواخر عهد الخليفة المأمون، فانتفضوا عليه جهرة، وقطعوا أسباب الاتصال بالعاصمة وعاثوا بالناس وبالمدينة خراباً، فأخذوا الغلات من البيادر وقطعوا السبيل وأخافوا السكان. فانبرى لهم المعتصم بعد تسلمه الخلافة، ووجّه إليهم قائداً اسمه عجيف، فقاتلهم وظفر بهم، وقدرت أعدادهم بسبعة وعشرين ألف نسمة، فأتى بقادتهم مقيدين إلى بغداد حيث تم ترحيلهم إلى خانقين. ليس كل ما كتب عن الغجر ازدراء أو تعداد مثالب، فقد كرس كثير من الباحثين مؤلفاتهم لتبيان محاسن القوم، فهذا بودلير الشاعر الفرنسي الذي يحلم بالجلوس في عربة من عرباتهم ويتمنى مشاركتهم حياتهم. ولم يفت فيكتور هوغو أن يخترع أو يبلور شخصية «ازميرالدا» الغجرية الجميلة التي كسرت طوق اللعنة التي ألصقها الناس بالغجر، ولا ننسى رائعة ميريميه «كارمن» التي تعد من روائع الأدب الفرنسي، كما حفلت بعض مؤلفات شكسبير بشخصيات منهم، وجورج بورو الذي اعتبر من حُماة الغجر في عصره والذي جاهر بالقول: الغجري مهرج المجتمع الذي يستاء منه الجميع، لكن من دونه تصبح الحياة كئيبة. ولئن تضاربت الآراء حول أصول الغجر، فلقد اختلفت تسمياتهم باختلاف البلدان التي ارتحلوا إليها: فهم الزطّ أو الجت في الكتب القديمة، وهم الضفص أو القُنْس (بالضم ثم السكون) وهم البوهيميون في فرنسا وكثير من البلدان الأوروبية، وهم «الجيبسي» في بريطانيا وهم التتر في المانيا، وهم اللوري في بلوشستان والنور - ومفردها نوري - في الأردن وسورية وفلسطين، وهم الكاولية أو لوبي في العراق، وجنكنة أو زنكنة في إيران، وقرج وقرجي (بالجيم المعجمة) في بعض بقاع تركيا، وهم وقّازة في تونس... الخ. والغجر مولعون بالخيول، ولعل تحيتهم «أرجو أن تعيش خيولك طويلاً»، تكشف مدى أهمية الخيل لدى الغجري، فهو يعامل جواده كصديق. ويبدي مهارة فائقة أثناء علاج الجواد وتطبيبه، حتى قيل: غجري من دون حصان ليس بغجري. وعلى رغم ذلك، فلطالما وصف الغجري بأنه فارس رديء. وولعه بالحصان لا علاقة له بالفروسية، بل بكونه ثروة، يكرسه للحمل أو للتنقل أو المقايضة أو البيع. والغجري بارع في جملة من الخدع والحيل لتحسين مرأى الحصان أمام الشاري، لا سيما الغشيم. وولعهم باقتناء وتدريب الدببة هو الآخر لافت للنظر. أما المهنة الأحب التي غلبت على طبع الغجري فهي الموسيقى. ويقال إنهم موسيقيون بارعون بالفطرة. ومهما كانت حرفة الغجري، فإن حرفته الأولى كموسيقي، تطغى على كل ما عداها وأدواتهم كثيرة أبرزها المزمار والربابة والرق والطبلة والدّف. أما النساء فتتجلى براعتهن في قراءة الطالع، وبوسائل متعددة، منها قراءة خطوط الكف والأصابع أو بواسطة ضرب الودع والخرز وتشكيلات حبوب الرز أو الحنطة، ويعز بعضهم فن قراءة «التاروت» إلى الغجر، الذين لهم قصب السبق في استعماله للمرة الأولى، إضافة إلى «العرافة»، فالنساء الغجريات ماهرات في عمليات التوليد والاجهاض والتطبيب بواسطة الرقي والحجامة والشمائم والطلاسم والأشربة العشبية ولحاءات الأشجار ومعالجة العقم. وللعشيرة سطوة على الغجري، فرداً وأسرة وعوائل، وهم يقدمون كل أفراد العشيرة باسم «ابن العم» وهذا النعت واضح بين غجر العراق والأردن وسورية، ويفضلون الزواج من ابن العم على سواه. ويحترم الغجر قوانينهم الخاصة بهم، ويحسبون لها حساباً، ويفضون نزاعاتهم في ما بينهم، ونادراً ما يلجأون إلى الشرطة أو المحاكم لحل تلك الخصومات. ثمة مجلس يتألف من كبار رجال العشيرة وحكمائها، يوكل إليه حل النزاعات، وأحكام المجلس ملزمة للطرفين المتخاصمين لا حيدة عنها. أما إذا صدر حكم قضائي رسمي يفضّ نزاعاً بين غجري وغجري، فلا يعترف به، فالانصياع لحكم «الكريس»، مجلس العشيرة، هو النافذ، ولعل هذا أحد أسباب تماسك الغجر في مختلف أقطار الأرض. والغجري، عموماً، مطبوع على عادة عدم الكشف عن شعائره وطقوس العشيرة. إنها حكر على الغجر ولا يتم الكشف عنها بسهولة أمام الغرباء، على رغم أن أمية الغجر أمر لا نزاع عليه، إلا أن بعض من استوطن منهم واستقر أصاب حظاً من التعلم يمكنه من القراءة والكتابة، وأمية الغجر لم تحل بينهم وبين معرفة ما يجري حولهم. وثمة تفاسير متعددة لأمية الغجر، منها اسطورية، لكن التعليل العلمي المقبول هو أن تنقلهم الدائم لا يتيح لهم الحصول على تلك النعمة، إضافة إلى مشقة حمل الكتب الثقيلة عند الاقامة والترحال والتنقل، لا سيما إذا عرفنا أن الغجري لا يحمل معه إلا ما خف حمله، وما هو ضروري جداً. ونظراً إلى عدم وجود لغة مكتوبة لدى الغجر، فقد عمدوا إلى وضع التعاليم المهمة بصيغة الشعر ليسهل حفظه وتذكره. ويعتبر الماء من الممتلكات الثمينة للغجري، لا ينبغي التفريط به بسهولة. ولعل هذا السبب جعلهم يكرهون الاستحمام. يقتصر استعمال الماء على الطبخ وسقي الحيوانات وارواء العطش. أما استعماله لغسل الملابس، فيعتبر جريمة لا تغتفر. ونسب بعضهم كراهيتهم للماء كنتيجة لما تسببه الأمطار من عوائق لحركتهم ولتجمعاتهم التي غالباً ما تكون خياماً أو أكواخاً نصبت في العراء. وقد يمر عام كامل من دون أن يستحم الغجري ولا يشكل ذلك عندهم عيباً، وقد يعمد بعضهم لاستعمال أوراق الشجر طيب الرائحة كالعناب مثلاً يتمسحون به عوضاً عن الماء. أما الأطعمة، فإنهم غير متطلبين في طعامهم، وكثيراً ما يعتمدون على المنتجات الطبيعية والثمار البرية كالعليق والتوت والنبق والفطر والكمأة. ولعل طعامهم المفضل هو حساء القنفذ ولحمه، ويعد من أطعمة الأعياد والمناسبات السعيدة، ويطبخ بطريقة غريبة، حيث يغلّف بطبقة من الطين ويوضع في فرن فخاري تحت سطح الأرض، وعندما ينضج تُكسر طبقة الطين حيث تبقى أشواك القنفذ عالقة بقطع الفخار، ويقدمونه ملفوفاً بأوراق الأشجار، كما يفضلون أكل الطيور التي يصطادونها، وغالباً ما يجففون اللحم قبل طهيه ويحبذون أكل اللحم المقدد، وتمتلكهم عادة شرب الشاي ويدخنون بشراهة. لقد لحقت المدنية الحديثة بمعظم طوائف الغجر. فبعدما كانوا حفاة، صاروا ينتعلون أغلى الأحذية، وبدل العربات التي تجرها الحمير، عرفوا السيارات الفارهة والكرفانات المكيفة، وبعد السكنى في الحجور غدت مساكنهم فوق سطح الأرض مشرعة على الهواء الطلق. وتعلم كثيرون منهم القراء والكتابة، واتخذوا لهم حِرفاً جديدة غير السباكة وصهر المعادن والرقص في الاعياد و? و? و? صنعة واحدة لم يتخل عنها الغجر ولن يتخلوا عنها إلى أبد الدهر، وهي اعتدادهم بأنهم غجر.