ألقت الانتخابات الاشتراعية في المغرب والانتخابات المحلية في الجزائر ظلالها الكثيفة على الندوة التي أقامها "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" في باريس الجمعة الماضي والتي قرأ من خلالها باحثون عرب وفرنسيون المسارات الانتخابية في شمال أفريقيا على مدى أكثر من أربعين عاماً، ليكتشفوا ان هناك تقدماً نحو الشفافية والاقتراب من المعايير الدولية للانتخابات عدا تونس حيث ما زالت الفجوة شاسعة. باريس - "الحياة" - ما ان برزت الدول الوطنية في المغرب العربي بعد نيل الاستقلالات حتى جرت الى صناديق الاقتراع تسعى الى شرعية ديموقراطية تعزز شرعيتها الكفاحية أو "الثورية". ويمكن القول ان القيادات السياسية حرصت دائماً على احترام الاستحقاقات الانتخابية طيلة العقود الأربعة الماضية، عدا الوضع الاستثنائي الذي مرت فيه الجزائر خلال النصف الأول من التسعينات. لكن الاحتكام الى صناديق الاقتراع يمكن ان يشكل مجرد اجراء صوري أو إداري طالما لم يندرج في إطار مأسسة المجتمع وتحييد الدولة، وما لم يرافقه مناخ تعددي تتساوى في ظله الفرص الممنوحة للمعارضين مع تلك التي يحصل عليها الحزب الممسك بزمام السلطة. وكشفت الأوراق المقدمة الى الندوة التي أقامها "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" أخيراً حول موضوع "مغزى الاستحقاقات الانتخابية في المغرب العربي اليوم" وجود كثير من نقاط الالتقاء والاختلاف في آن معاً. لذا طرحت رئيسة الندوة الباحثة خديجة محسن فينان فكرة استجلاء القواسم المشتركة بين المسارات الانتخابية في كل من المغرب والجزائروتونس لالتقاط ملامح التطور السياسي العام للمنطقة وكذلك فهم العلامات الفارقة بينها التي تلقي الضوء على أسباب التطور المتفاوت من بلد الى آخر. بن جديد وزروال ربما ارتدت تجربة الجزائر أهمية خاصة كون الانتخابات ظلت فيها عملية روتينية خالية من أي مغزى طيلة ثلاثة عقود ثم تحولت فجأة الى زلزال كاد يعصف بالوضع القائم ويضع الاسلاميين على سكة الحكم مطلع التسعينات. في هذا السياق وصف أكرم الياس الانتخابات التي أجريت الى حدود تشرين الأول أكتوبر العام 1988، تاريخ اندلاع الانتفاضة التي زعزعت حكم "جبهة التحرير الوطني"، الحزب الوحيد منذ الاستقلال، بكونها نوعاً من "الواجب الإداري الذي يؤديه المواطنون بغية قضاء حوائجهم وتفادي المتاعب مع الدولة". وعندما رشحت "الجبهة" الشاذلي بن جديد في الانتخابات التي أجريت بعد شهرين من "الإنتفاضة" أعلن أنه حصد 81 في المئة من الأصوات، فيما هو لم يحصل في الواقع سوى على 30 في المئة فقط من الأصوات المصرح بها. ولم تعرف الجزائر انتخابات رئاسية سوى في تشرين الثاني نوفمبر العام 1995 عندما أتى اللواء اليمين زروال حاملاً الأمل بالعودة الى الحكم المدني تدريجاً وإنهاء الإقتتال الأهلي واستئناف المسار الانتخابي وعليه لم يكن المناخ مواتياً، على رأي الياس، لعرض برامج المرشحين والمفاضلة بينها. أما في إنتخابات العام 1999 فلم يُتح انسحاب المرشحين الستة الذين نافسوا بوتفليقة قياس شعبيتهم والحصول على مؤشرات يمكن قراءتها للوصول الى استخلاصات ودلالات دقيقة. مع ذلك لاحظ الياس ان النتائج المعلنة أعطت لبوتفليقة 73 في المئة فيما لم يعط زروال في الانتخابات السابقة سوى 60 في المئة، وتساءل هل سيكون الرئيس الحالي المرشح الرسمي في الانتخابات المقررة لربيع العام ألفين وأربعة في وجه "المرشحين التقليديين للمعارضة" أم سيتخلى عنه الجيش؟ غضبة "القبائل" يعتبر التمرد الشامل على الدولة ورموزها في منطقة "القبائل" أخطر ظاهرة تجابه وحدة الجزائر، وهي إنعكست سلباً في سير الأداء الانتخابي خلال الانتخابات الاشتراعية الاخيرة وبالأخص خلال الانتخابات المحلية التي أعلن عن نتائجها الجمعة الماضي والتي قاطعها الناخبون الأمازيغ خصوصاً في مدينتي تيزي وزو وبجاية. لكن الباحثة مريم آيت عودية التقطت مفارقة في الانتخابات البرلمانية والمحلية على السواء، فللمرة الأولى منذ تكريس التعددية مطلع التسعينات استكملت المجالس البلدية وأعضاء البرلمان ولاياتهم الى آخر يوم، وعليه لم يتم اللجوء الى انتخابات مبكرة. مع ذلك قاطع المواطنون الانتخابات في شكل واسع، إذ قدرت نسبة الذين لم يقترعوا ب54 في المئة خلال الانتخابات الاشتراعية و60 في المئة خلال الانتخابات المحلية. من هذه الزاوية استنتجت آيت عودية وجود تغيير في أسلوب التأطير السياسي للمجتمع، وهي اعتمدت على ما جرى في منطقة "القبائل" لتقرأ ملامح هذا التحوّل السياسي - الاجتماعي، إذ ان "حركة المواطنة" التي قادت التمرد على الدولة اثناء العملية الانتخابية لا تنطبق عليها الصورة التقليدية النمطية للأحزاب، فهي غير متجانسة لأنها مؤلفة من عناصر متحدرة من حزبي "جبهة القوى الاشتراكية" و"التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية" واخرى بلا انتماء سابق، وهي تستند كذلك الى بنية أفقية رافضة أي بناء عامودي يكون على رأسه قائد أو هيئة قيادية. ماذا يطلبون اذا؟ اختزلت آيت عودية مطالب الأمازيغ "بالتعويض لضحايا انتفاضة القبائل واعتماد اللغة الأمازيغية ووضع حد ل"الحقرة" احتقار الدولة مواطنيها ومطالب اجتماعية في مقدمها إقرار منحة بطالة للعاطلين عن العمل". حاول لويس مارتينيزر اعطاء تفسير لضبابية الخارطة السياسية في الجزائر فعزاها الى كون الاحزاب كانت سرية وانتقلت فجأة الى العلن لذا لا يمكن اخضاع أحجامها لمعايير دقيقة. ولعل هذا ما استدرج "جبهة التحرير" الى خطأ فادح بالتقدير لما تصورت في انتخابات العام 1991 انها قادرة على ان تحكم ب30 في المئة وتترك للإسلاميين 30 في المئة ولباقي الفرقاء 30 في المئة أخرى على ان يكونوا حلفاءها، إلا ان النتائج قادت الى العكس. أكثر من ذلك أجبرت الانتخابات المحلية والاشتراعية مطلع التسعينات العسكر على خلع الأقنعة والتقدم الى منطقة الضوء بعدما كانوا يستخدمون "الجبهة" واجهة للحكم. ثم أتى استفتاء العام 1996 ليرمم الجسور مع الناخبين ويسحب الجيش الى الظل وصولاً الى معاودة بناء المؤسسات في العام التالي، خصوصاً تشكيل حزب حاكم جديد التجمع الوطني الديموقراطي، على نحو مكن من التحاور من خلالها مع الفرقاء السياسيين. وفي المرحلة الاخيرة استعادت "الدولة - الجبهة" مواقعها ووظيفتها السابقة بعدما ضخت دماء جديدة في شرايينها وألبست المؤسسات ثوباً يناسب المشهد التعددي. "سكتة قلبية" تساءل مدير صحيفة "لوجورنال" المغربية أبو بكر الجامعي عن طبيعة "الصفقة" التي عقدها رئيس الوزراء السابق عبدالرحمن اليوسفي قبل تكليفه تشكيل "حكومة التناوب" التداول، فهو أقنع حزبه وأحزاب "الكتلة الديموقراطية" بالموافقة على دستور العام 1996 ثم بالتخلي عن وزارات السيادة التي أصر العاهل الراحل الحسن الثاني على حجبها عن المعارضة، وجرّ أعضاء حزبه الى التسليم بتلك التنازلات مردداً ان الملك أسر له بأن المغرب مقبل على "سكتة قلبية". وعلق الجامعي بكون اليوسفي لم يوضح أبداً إن كان الامر متعلقاً بسكتة اقتصادية أم سياسية؟ المهم انه اعترف بوجود عهد بينه وبين الملك الراحل وأنه أقسم بالقرآن على الوفاء لذلك العهد، من دون إيضاح مضمونه وتخومه. وبرأي الجامعي ان اليوسفي أخطأ عندما تخلى عن "الكتلة" فهي كانت تخيف القصر وإذا ما بات الإسلاميون أقوياء ومؤثرين اليوم فبسبب غيابها وتغييبها الى درجة ان اليوسفي صار يتحدث عن "الأكثرية الحكومية" بدل الحديث عن "الكتلة". أكثر من ذلك تجاسر على منع صحف مكرساً تصرفه كرجل دولة لا كزعيم صاحب مشروع تغييري. أما الخطأ الثاني الذي التقطه الجامعي فهو متمثل برفع اليوسفي شعار الديموقراطية فيما لم يتح لحزبه عقد مؤتمر عام من العام 1989 الى العام 2001، ما حدا بالملك الحسن الثاني الى حض الاحزاب على احترام الديموقراطية الداخلية من أعلى منبر البرلمان قاصداً حزب اليوسفي تحديداً. وعندما التأم المؤتمر كان هزيمة له لأنه كرس القطيعة مع فئتي النقابيين والشباب الذين كانوا أتوا به الى القيادة في مواجهة محمد اليازغي بعد وفاة عبدالرحيم بوعبيد. ورصد الجامعي ههنا ملامح تغيير جعلت من "الاتحاد الاشتراكي" حزباً إدارياً أي مستنداً على "المخرن" البنية التقليدية ومستمداً مشروعيته من اقترابه الى السلطة. واللافت ان قراءة الجامعي للتطورات المقبلة حملته على توقع سيناريو تركي للمغرب لمناسبة الانتخابات المحلية المقررة للعام المقبل فهو واثق من ان بلديات كبيرة بينها العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء ًِنْو إسطنبول ستنتقل الى سيطرة الاسلاميين، مؤكداً ان الانتفاضات الاخيرة 1981، 1994... إنطلقت من أحياء ومناطق فقيرة تخضع اليوم لتوجيه التيارات الأصولية، وعليه فإذا سعى الحكم الى ترضيتها فلن يحقق ذلك من خلال الحوار مع اليوسفي. ويعتقد الجامعي ان الاسلاميين سائرون على هذه الطريق مستدلاً بتصريحات بعض زعماء "حزب العدالة والتنمية" الذين كشفوا ان عيونهم على المجالس البلدية على رغم كونهم ملتزمين سياسة الطمأنة والتهدئة إزاء الحكم. فوق هذا وذاك شكل انفضاض رجال الاعمال من حول اليوسفي بعدما عقدوا عليه آمالهم عشية إنطلاق "تجربة التناوب" ضربة لرصيده السياسي على رأي الجامعي. تجاوز البلقنة في المقابل، ركّز الخبير الاقتصادي نزار بركة حزب الاستقلال على قراءة المشهد المغربي في ضوء نتائج الانتخابات الاشتراعية التي أجريت أواخر الشهر الماضي، وهو استخلص منها ستة مؤشرات أساسية: أولها انها كرست للمرة الأولى شفافية الاقتراع، وثانيها أنها ردت الاعتبار السياسي بعدما أفسدت سمعته التجارب السابقة، وثالثها دخول النساء في قوة الى مجلس النواب 37 نائبة في مقابل سيدتين فقط في المجلس السابق، ورابعها حياد الإدارة النسبي بعدما كانت ماهرة بالتزوير، وخامسها تبلور الخارطة السياسية للبلد والتي بدا أنها ليست بمستوى البلقنة الذي كان متوقعاً. وعلى رأي بركة لا يوجد في المغرب حزب كبير وإنما أحزاب من الحجم الوسط، فيما ظهرت تشكيلة قوية حققت اختراقاً لافتاً في أحزمة المدن الكبرى ممثلة بالإسلاميين. اما الاستخلاص السادس فهو القلق الذي يشعر به المجتمع المغربي حيال ظاهرة التزوير والتي قللت من الإقبال على الاقتراع فلم تتجاوز النسبة 52 في المئة 40 في المئة فقط في المدن. وعليه شدد بركة على ضرورة ترميم الثقة بين المواطنين والمنتخبين والتي يشكل غيابها عائقاً حقيقياً أمام التغيير، خصوصاً في ظل تضخم عدد الأحزاب إذ يوجد في المجلس الحالي 22 حزباً. بعد تجربتي المغرب والجزائر بدت حال تونس عصية على التصنيف حتى ان ميشيل كامو الذي أمضى نحو أربعين عاماً يرقب مسارها السياسي بعين الباحث وصف الانتخابات بأنها تعيين أكثر من كونها تعبيراً عن خيار الناخبين. والأكثر غرائبية ان النتائج المعلنة في الانتخابات الاشتراعية والرئاسية تمنح الفائزين نسباً تتجاوز 90 في المئة بل و99 في المئة ما أدى الى ظهور نوع من "المقاولين السياسيين" على عكس الوجاهات التي كانت في عهد الحبيب بورقيبة والتي كانت تستند الى قاعدة اجتماعية واضحة. ووضع كامو الإصبع على "لحظتين تأسيسيتين" للحكم: الأولى على عهد بورقيبة في العام 1955 لما جابه حركة معارضة واسعة قادها غريمه صالح بن يوسف، والثانية في عهد خلفه بن علي عندما خاض معركة فاصلة مع الاسلام السياسي في انتخابات 1989. ولم يبتعد الدكتور عياض بن عاشور عن هذا التحليل عندما أشار الى توالي دورات متعاقبة من الوعود التي يقدمها الحكم للمجتمع ثم يخلفها وأبرزها برنامج الاصلاحات الذي تضمنه بيان التغيير في العام 1987 والذي كرسه تعديل الدستور في العام التالي لوضع سقف للولايات الرئاسية، الا ان الاستفتاء الذي أجري في أيار مايو الماضي ألغى السقف وعدل حتى ضوابط السن. وأحصى بن عاشور 14 تعديلاً للدستور منذ الاستقلال "وهو أمر محيّر"، لكنه لاحظ ان هناك "حرصاً دائماً على التقيد بدستور وبضوابط قانونية مع تطويعها لمشيئة الحكام". وفي حال بورقيبة كان هناك صراع بين الأنا الجامحة والعقل السياسي انتهى الى انتصار الأولى والحرص على البقاء في الحكم الى ان تمّت تنحيته. فرصتان ضاعتا في هذا السياق ركز رشيد خشانة على محطتين اعتبرهما فرصتين ذهبيتين للانتقال السلمي الى الديموقراطية هما انتخابات العام 1981 على أيام بورقيبة والتي يعترف وزراؤه اليوم بأنها شهدت تزويراً واسعاً أعاد الحزب الحاكم الى عرشه، وانتخابات العام 1989 في ظل حكم بن علي والتي أفزع التقدم النسبي الاسلاميين فيها الاجهزة فأقفلت الأبواب أمام نسائم التغيير. وأشار الى ان الحكم اضطر الى حيل قانونية لتأمين حصة من المقاعد للأحزاب الموالية خارج الحصة المتنافس عليها والتي يفوز بها آلياً مرشحو الحزب الحاكم. من الملاحظات السابقة انطلق الباحث فنسون جيسير للوقوف على "الظاهرة الاجتماعية"، المستهجنة عادة في التجارب التعددية، واستخلص ان الناخبين في تونس "عبارة عن أشباح" فلا وجود لناخبين حقيقيين على غرار المغرب أو الجزائر. ورأى ان النسبة التي تعطى لأصوات "الضد" في الرئاسية والبرلمانية "لا تتيح أي تحليل لاتجاهات الناخبين وميولهم كونها تقتصر على فتات". وحذّر من كون ضياع الثقة بصناديق الاقتراع التي تشكل مصدر تجديد الشرعية يجعل التغيير يأتي ربما من الشارع.