عقود ثلاثة مضت على استشهاد الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، وعقود اربعة على صدور روايته الاشهر والاهم "رجال في الشمس" طبعت خلالها رواياته وأعماله القصصية مرات كثيرة، وجرت في ذكرى رحيله احتفالات قال خلالها الادباء والنقاد آراء مختلفة في ادبه، وهم قلما اقتربوا من حضوره الروائي في السينما، التي نقلت ثلاثاً من رواياته حققت منها اربعة افلام، اختلفت ظروف انتاجها، واختلفت تبعاً لذلك حظوظها من النجاح والجودة. وإن تكن في كل الاحوال عكست بهذا القدر او ذاك رؤى ومقولات سياسية، وكفاحية قصدها الكاتب الشهيد وهدف الى اشاعتها. بدأت تجربة نقل روايات غسان كنفاني الى السينما عام 1972، وهو عام استشهاده ايضاً، ففي ذلك العام حقق المخرج السوري خالد حماده فيلمه "السكين"، عن رواية غسان "ما تبقى لكم"، وقد كتب المخرج سيناريو الفيلم بنفسه، وقام بأدواره الرئىسة الممثلة المصرية سهير المرشدي والممثلون السوريون رفيق سبيعي وبسام لطفي وناجي جبر. الفيلم والرواية يقومان على احداث قليلة الشخصيات ما جعل المساحة اوسع للحوار حيناً وللتأمل شبه الصامت احياناً كثيرة. تحقق الفيلم بالأبيض والأسود، ولكنه لم يستطع ان ينتزع من ذهن قارئ الرواية الفارق الكبير بين القراءة والمشاهدة البصرية. اذ جاء مقاربة رتيبة لمقولات الرواية وعالمها. وفي العام ذاته، وقبل استشهاد غسان كنفاني بفترة قصيرة انتهى المخرج المصري المعروف توفيق صالح من تحقيق فيلمه المهم "المخدوعون" عن رواية كنفاني الاشهر "رجال في الشمس"، بعد ان كتب السيناريو بنفسه، وقام بأداء الادوار الرئىسة في الفيلم الممثلون السوريون عبدالرحمن آل رشي ومحمد خير حلواني وبسام لطفي وثناء دبسي، وقد تحقق الفيلم باللونين الابيض والاسود، وعرض في مهرجان قرطاج السينمائي في تونس، فنال جائزة "التانيت الذهبي". كتب غسان كنفاني روايته "رجال في الشمس"، وصدرت في كتاب عام 1962، وفي العام ذاته، تحولت الى مسلسل اذاعي في زمن الاذاعة الذهبي، وقد ذكر لي المخرج توفيق صالح، ان اول محاولة له لتحويل هذه الرواية الى فيلم سينمائي كانت بعد صدورها بسنوات قليلة اذ انجز كتابة السيناريو وتقدم به الى "المؤسسة العامة للسينما" في مصر التي وافقت عليه واستعدت لتحقيقه، الا ان الانتاج تعثر المرة تلو المرة، حتى جاء المخرج الى سورية في مطلع السبعينات وأخذ يفكر مرة اخرى في تحقيق فيلم عن "رجال في الشمس". يقول توفيق صالح ان زمن كتابة السيناريو الثاني للرواية مطلع السبعينات من القرن الماضي اختلفت وقائعه السياسية عن زمن كتابة الرواية مطلع الستينات، وهو لهذا السبب اجرى تصرفاً بسيطاً في خاتمتها بالتفاهم مع الكاتب الشهير كي تنسجم النهاية مع الوقائع الفلسطينية الجديدة، ففي حين تنتهي الرواية بصرخة "أبو الخيزران": لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ اي لماذا لم تقاوموا عمد المخرج الى جعل ابطال الرواية الثلاثة يقرعون جدران الخزان في اشارة لانطلاق الكفاح المسلح الفلسطيني ولكن من دون ان تتمكن ضرباتهم من إيصال صوتهم الى المحيط العربي الذي ظل صوت جهاز التكييف يحجبه ويطغى عليه. "المخدوعون" فيلم بالأبيض والأسود تجلت فيه براعة توفيق صالح كواحد من أهم المخرجين في تاريخ السينما العربية، خصوصاً وقد نجح في الامساك بالمناخ النفسي لأبطاله، فراح يعرض ظرفهم المأسوي في سلاسة جارحة مزجت بسهولة ويسر بين ما هو رمزي وما هو واقعي فتمكن المشاهد البسيط من قراءة المستويين بوصفهما مستوى واحداً. توفيق صالح في "المخدوعون" قدم نشيداً جارحاً لم يعتمد اي هجائية للواقع قدر اعتماده حقائق ومفردات المأساة ذاتها، وقد زاد من جمالية الفيلم مقدرة المخرج الكبيرة على إدارة ممثليه في صورة جعلتهم يقدمون اقصى ما لديهم من مواهب، خصوصاً وقد ترافق ذلك كله مع التصوير في الاماكن الحقيقية في كل من سورية والعراق، وبالذات في منطقة شط العرب. ومن يشاهد "المخدوعون" سيلحظ ان توفيق صالح نقل الى الفيلم حوار الرواية نفسه تقريباً، ولم يتصرف إلا بالحدود الدنيا التي يتطلبها الفارق بين الفصحى والعامية. ربما لهذه الاسباب كلها لا يزال فيلم "المخدوعون" واحداً من اهم الافلام التي انتجتها "المؤسسة العامة للسينما" في سورية، وهو بالتأكيد - الى جانب فيلم المخرج اللبناني برهان علوية "كفر قاسم" - انجح الافلام التي تناولت مواضيع ذات صلة بالقضية الفلسطينية. في "المخدوعون" بناء روائي ادخل اليه توفيق صالح الوثائقي عندما استعان بمشاهد لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين بعد عام 1948، كان المخرج قد صورها في قطاع غزة وتضمنها فيلم تسجيلي له، ما منح الفيلم صدقية اعلى، وقربه من المشاهدين. في التجربة السينمائىة المأخوذة عن اعمال ادبية لغسان كنفاني فيلمان آخران، ومن اللافت انه جرى تحقيقهما عن رواية واحدة هي رواية "عائد الى حيفا" اخرج الفيلم الاول المخرج العراقي قاسم حول وانتجته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في حين اخرج الثاني المخرج الايراني سيف الله داد بممثلين سوريين. قاسم حول حقق فيلمه بأدوات وامكانات مادية بسيطة، ان لم نقل شديدة التقشف، افتقد خلالها لأبسط الاشياء فجاء فيلمه مملوءاً بالنواقص والثغرات، ومع ذلك نجح في إيصال الحوار الاساس في الرواية بين الأب العائد الى حيفا بعد احتلال الضفة الغربية عام 1967 وبين الابن الذي تركه طفلاً فيها، فعاش مع عائلة يهودية وصار يهودياً، بل وضابطاً في الجيش الاسرائىلي. فيلم المخرج الايراني سيف الله داد "المتبقي"، لم يأخذ من رواية غسان كنفاني "عائد الى حيفا" الا الصفحات الاولى، وانطلق بعد ذلك في احداث مغايرة رسمها المخرج بهدف التخلص من فكرة تهويد الطفل فعمد الى جعل الجدة تتمكن من تهريبه من بيت العائلة اليهودية وأخذه معها في قطار تضع فيه كمية كبيرة من المتفجرات وتقفز منه قبل ان ينفجر، ليصبح هذا الطفل هو "المتبقي" كما يقول عنوان الفيلم، والحامل لإرث القضية والصراع كما ترمز مضامين احداثه. فيلم "المتبقي" تميز بفنية اخراجية عالية. ومن الجدير بالذكر ان الممثل السوري جمال سليمان لعب الدور الرئيس في الفيلمين، فيلم قاسم حول، وفيلم سيف الله داد. في الإجمال لا نستطيع ان نتحدث عن تجربة سينمائية مهمة تحققت من اعمال غسان كنفاني الا مع فيلم توفيق صالح "المخدوعون"، ومع ذلك فإن اعمال غسان الادبية تظل قابلة لقراءات سينمائىة وتلفزيونية جديدة، خصوصاً ان من بين هذه الاعمال قصصاً قصيرة ذات جماليات عالية.