هناك مفهوم اساسي قامت عليه كل المحاولات الرامية لتحقيق السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين، هذا المفهوم هو "حل الدولتين". لقد ارتأى صانعو السلام في الشرق الاوسط ان افضل وسيلة لتحقيق العدل والامن والسلام بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي تكمن في اقامة دولتين تتمتعان بالسيادة غرب نهر الاردن، وهما اسرائيل وفلسطين. وباعتباري احد الذين ساهموا في التوصل الى اتفاقات اوسلو عام 1993 وباعتباري الآن المنسق الخاص للامم المتحدة لعملية السلام في الشرق الاوسط، فإني اشاركهم جميعاً في هذه الرؤية. ان قيام دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنباً الى جنب مع اسرائيل لا يزال ممكناً، ولكن هذه الامكانية قد تتضاءل في ضوء اربعة اتجاهات حالية. الاتجاهان الأولان واضحان للعيان: تدهور للوضع الامني يغذيه العنف والارهاب من جهة، ومن جهة اخرى ازمة انسانية فلسطينية غير مسبوقة. الاتجاهات الآخران وإن كانا اقل ظهوراً للعيان، فإنهما يحملان في طياتهما نتائج بعيدة المدى والخطورة وهما: التغيير التدرجي للسلطة الفلسطينية والتوسع الاسرائيلي المتسارع في مستوطناتها في الضفة الغربية. تدفعني هذه الاتجاهات، وانا لست الوحيد في هذا الصدد، الى ان اطرح اسئلة في غاية الازعاج: هل نقترب من موت فكرة الدولتين، وهي اساس كل جهود السلام؟ واذا حدث ذلك فهل نحن مستعدون لمواجهة النتائج؟ نحن الآن عند تقاطع طرق بالغة الاهمية، ويتضح ذلك اكثر ما يتضح من الهوة المتزايدة بين الجهود الديبلوماسية لإحلال السلام والاوضاع الكارثية على ارض الواقع. فعلى الصعيد الديبلوماسي هناك اجماع دولي غير مسبوق على صياغة خطة لتحقيق سلام شامل على مدى ثلاث سنوات، وذات مراحل ثلاث وضعتها المجموعة الرباعية الولاياتالمتحدة الاتحاد الاوروبي روسياالاممالمتحدة. قامت هذه الخطة على مبادرات ديبلوماسية متعددة بدءاً من المبادرة العربية التي تبنتها القمة العربية في بيروت والتي تدعو الى اقامة دولتين والاعتراف الكامل باسرائيل، الى الكلمة التي القاها الرئيس الاميركي جورج بوش في حزيران يونيو - وعززتها اخيراً اقوال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير - والتي رسم فيها الرئيس الاميركي رؤيته لدولة فلسطينية تعيش بجوار اسرائيل. بالاضافة الى ذلك، قام مجلس الامن باتخاذ قرار بالاجماع تبنى فيه خطة "المجموعة الرباعية" التي اعلنت في 17 ايلول سبتمبر 2002. كل هذه المبادرات تقول شيئاً واحداً: لدينا طريق للتقدم الى امام. الا ان هذه التحركات الديبلوماسية الواعدة تتعارض والاوضاع الكارثية السائدة اليوم في الضفة الغربيةوغزة، وكي نفهم ذلك بشكل أفضل علينا ان نتطرق الى وجهتي نظر متنافستين موجودتين كليهما لدى كل من الجانب الاسرائيلي والفلسطيني: وجهة نظر بناءة ووجهة نظر هدّامة. وببساطة، فإن وجهة النظر البناءة تؤمن بإمكان حل النزاع من خلال اقامة دولتين، وهو ما لا يؤمن به اصحاب وجهة النظر الهدّامة. يشترك "البنّاؤون" الاسرائيليون والفلسطينيون في الايمان بأن الطريق الامثل لتحقيق السلام والامن والرخاء للطرفين هو من خلال اقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تعمل لمصلحة شعبها وفي الوقت نفسه تمنع العنف ضد اسرائيل. هذا السيناريو يؤدي الى تحقيق مصلحة الطرفين. اما "الهدّامون" الاسرائيليون والفلسطينيون فيدعون الى السيطرة الكاملة على الارض على حساب خصمهما، بما يجعلهما في حال عناق غير مقدس يشعل دائرة العنف والصراع. من وجهة نظر هؤلاء لا يمكن ان توجد على هذه الارض - بين النهر والبحر - سوى دولة واحدة: إما اسرائيل وإما فلسطين. وهي لعبة مجموع مكاسب وخسائر الطرفين فيها يساوي صفراً: ما يكسبه طرف يخسره الآخر. الاتجاهات الحالية تشير الى ان "الهدّامين" لهم اليد العليا. اولاً: اسفر سفك الدماء الجاري عن مقتل اكثر من 600 اسرائيلي و2000 فلسطيني مما زرع بذور الحقد والكراهية لدى الجانبين، الامر الذي يجعل من الصعب بدء المفاوضات، ناهيك عن توصلهما الى نتيجة. ثانياً: تدهورت الاحوال الفلسطينية الانسانية والاجتماعية بشدة، حيث اصبح مئات الآلاف من الفلسطينيين تحت نظام حظر التجول وانهارت الاوضاع الاقتصادية بحيث اصبحت المساعدات الدولية السبيل الوحيد المتاح لمنع الانهيار الاجتماعي والاقتصادي الكامل بما يشيعه ذلك من انتشار للمرض والجوع والفوضى. ثالثاً: قامت اسرائيل خلال حملاتها العسكرية بما يقترب من التدمير الكامل لمؤسسات السلطة الفلسطينية التي استغرق بناؤها عقداً كاملاً والتي تعتبر حجر الاساس للدولة الفلسطينية. رابعاً: وربما الاهم، استمرت اسرائيل في توسيع المستوطنات في الضفة الغربية ومصادرة الاراضي وعلى رغم الدعوات الدولية لتجميد النشاط الاستيطاني استمرت اسرائيل في توسيعها. ان المستوطنات والطرق الالتفافية المرتبطة بها تؤدي الى عزل القدسالشرقية عن بقية اراضي الضفة الغربية والتي قسمتها المستوطنات ايضاً الى شطرين، وستخضع الضفة لمزيد من التقسيم في الشمال وعند بيت لحم والخليل في الجنوب. يحذر كثير من الفلسطينيين والاسرائيليين من ان هذه التطورات ستجعل من المستحيل قيام دولة فلسطينية تسيطر على اراضيها وحدودها ومواردها، وتكون نتيجة ذلك موت فكرة اقامة دولتين للشعبين الاسرائيلي والفلسطيني. ماذا يعني ذلك؟ لنجب بصراحة: اذا ابقت اسرائيل سيطرتها على الضفة وغزة ستواجه اختباراً صعباً في ضوء وجود سكان فلسطينيين على هذه الارض. يمكن ان يجد الفلسطينيون انفسهم يعيشون في سلسلة متقطعة الاوصال من الاراضي التي يسيطر عليها "زعماء حرب" محليون، وهو الامر الذي سيحرمهم من التمتع بالحرية التي يستحقونها وسيحرم الاسرائيليين من الحصول على الامن الذي ينشدونه. الخيار الآخر هو سيطرة اسرائيل على الارض من دون السكان، وهو ما يعرف بحل الترحيل الترانسفير. نحن لم نصل بعد الى موت خيار الدولتين، ولكن الامر يستدعي جهوداً قوية من جانب الاسرائيليين والفلسطينيين للابتعاد بنا عن هذا الدرك التدميري. ولدي ثقة في امكان حدوث ذلك، وقد دعم هذه الثقة استطلاع رأي اجري اخيراً بين الاسرائيليين والفلسطينيين يشير الى وجود غالبية بين الجانبين تؤيد اقامة الدولة الفلسطينية اذا ما اتبع الفلسطينيون منهجاً سلمياً، كما تشير الاستطلاعات الى وجود غالبية فلسطينية كبيرة تؤيد الوسائل السلمية لإقامة دولتهم. نحن جميعاً نعرف ما يجب عمله. أتوجه بالسؤال الى الشعب الاسرائيلي: هل انتم مستعدون لمطالبة حكومتكم بالعودة فوراً لمساندة المفاوضات ووقف كل النشاطات الاستيطانية والعمل مع الفلسطينيين والمجتمع الدولي لبناء دولة فلسطينية مسالمة؟ واذا لم تكونوا مستعدين لذلك، فهل انتم مستعدون لمواجهة النتيجة؟ واتوجه بالسؤال الى الشعب الفلسطيني: هل انتم مستعدون لوقف ليس فقط الارهاب وانما اشكال العنف كافة سواء كنتم تعتبرونه شرعياً ام لا؟ هل تعترفون - كالكثير من قادتكم - بأن العنف والارهاب أضرّا بطموحاتكم القومية وأدّيا الى أزمة لم يسبق لها مثيل خلال جيلين مضيا؟ وللمجتمع الدولي اقول: حان الوقت للتحرك بشكل حاسم لوضع عملية السلام مرة اخرى على مسارها والتوصل الى حل قائم على دولتين، والا فإن علينا مواجهة النتائج. * مبعوث الامين العام للأمم المتحدة الى الشرق الأوسط.