يصعب حصر تصريحات الرئيس جورج بوش وأركان إدارته عن العراق، ففي كل يوم عدد منها، بعضها يكرر فيه المسؤولون المعلومات نفسها، وبعضها يناقض ما سبقه، حتى ان الرئيس نفسه هادن صدام حسين يوم الاثنين الماضي وتحدث عن تغيير النظام اساليبه، فلم يحل يوم الجمعة وصدور قرار الكونغرس الذي يخوله الحرب حتى صعّد لهجة التهديد. الرئيس بوش قارن قبل ايام خطر الوضع العراقي بأزمة الصواريخ الكوبية قبل 40 سنة، إلا أنه زاد: "مع مواجهتنا أدلة واضحة على الخطر، فإننا لا نستطيع ان ننتظر دليلاً قاطعاً قد يأتي كغمامة، بشكل الفطر"، ويقصد غمامة نووية. ثمة خلل في هذا الكلام، فالرئيس جون كنيدي سنة 1962، قدم دليلاً قاطعاً على وجود صواريخ سوفياتية في كوبا عندما وزعت إدارته صوراً أخذتها أقمار التجسس، وتظهر بوضوح وجود هذه الصواريخ في بلد يبعد 70 ميلاً عن ميامي. وهذا برر مغامرة الولاياتالمتحدة بمواجهة نووية لإبعاد الخطر عنها، وتراجع الاتحاد السوفياتي. البيت الأبيض وزع هذه المرة صور اقمار تجسس قال انها تظهر ان العراق اعاد بناء منشآت نووية ضربتها القوات الحليفة قبل 1998. ولكن على رغم التقدم الهائل في التكنولوجيا على مدى الأربعين سنة الماضية فإن الصور الجديدة لم تحسم الأمر، ورئيس فريق التفتيش الدولي الدكتور هانز بليكس، قال معلقاً ان أقمار التجسس لا ترى داخل المباني، وأن إثبات وجود برنامج نووي يحتاج الى عمل على الأرض، وداخل المباني المشتبه بها. ما يقول الرئيس بوش في الواقع هو انه مستعد لمهاجمة صدام حسين على الشبهة، وهذا موقف صدام حسين نفسه، فقد اشتهر عنه انه يقتل على الشبهة، ثم يحاكم ضحاياه، وقد يبرأون، ويرد الاعتبار إليهم، ويدفع تعويض الى أسرهم. الحقيقة ان لا دليل قاطعاً على امتلاك العراق اسلحة دمار شامل ووسائل لإيصالها تهدد فعلاً الولاياتالمتحدة، مع العلم ان الإدارة الأميركية وزعت في الأسبوع الأول من الشهر الماضي تقريراً في 20 صفحة عن معلومات متراكمة من مصادر مختلفة تثبت وجود برنامج نووي عراقي وعلاقات مع القاعدة التي سأكمل بها بعد قليل. وقدم رئيس الوزراء البريطاني في الأسبوع الأخير من الشهر نفسه تقريراً في 50 صفحة يكرر المعلومات الأميركية ويتوسع في شرحها ويضيف إليها. غير ان الخبراء اجمعوا على عدم وجود مادة جديدة في التهم، ناهيك عن دليل قاطع عليها. الشيء الوحيد الأكيد في كل ما سبق هو ان الرئيس بوش يريد ان يشن حملة عسكرية على العراق لتجريده من اسلحة الدمار الشامل ان وجدت وتغيير النظام. وهو لذلك غير معني بالتفاصيل، أو بالحقائق، لأنها قد تفسد خطته. وقبل يومين زاد الرئيس بوش على صدام حسين شرطاً عجيباً للتفتيش لم يذكره في خطابه الذي ألقاه في الأممالمتحدة في 12 من الشهر الماضي، فهو طلب ان يسمح صدام حسين لشهود عراقيين على نشاطه غير الشرعي بأن يستجوبوا خارج بلاده، وأن يأخذوا أفراد اسرهم معهم حتى لا يستعملهم صدام حسين كرهائن. العراق يعاني حصاراً اقتصادياً مدمراً منذ 11 سنة، ولا أمل لمعظم العراقيين بحياة افضل سوى الهجرة، والرئيس بوش يعرض عليهم ذلك في مقابل الشهادة ضد النظام. ولا بد ان هناك ألوفاً من العراقيين الذين سيقبلون قراءة اي شهادة تطلب منهم في مقابل ضمان مستقبل افضل لأسرهم في الخارج. إلا ان ظروف شهاداتهم هذه لن تكون من نوع تقبل به محكمة محترمة. على كل حال، إن لم تكن التهمة عن اسلحة دمار شامل، فهي عن علاقة بالقاعدة، بل علاقة بإرهاب 11 ايلول سبتمبر من السنة الماضية، وبما أنني عائد من شمال العراق، ومن اجتماعات مع قادة الأكراد فإنني أقول ان التهم ممكنة، ولكن غير ثابتة، فنعود الى الشبهة مرة اخرى. الرئيس بوش قال ان هناك خطر "ان تصبح القاعدة امتداداً لجنون صدام". ووزير الدفاع دونالد رمسفيلد اكد ان اجهزة الاستخبارات الأميركية لديها ادلة "مقاومة للرصاص"، ويقصد قاطعة، على علاقة صدام حسين بالقاعدة، وعلى ان اعضاء كباراً في القاعدة زاروا بغداد في "الفترات الأخيرة"، وأنه جرى تدريب رجال القاعدة في العراق على استخدام اسلحة كيماوية وبيولوجية. وكررت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس كلام وزير الدفاع، وأصرت على ان "بعض اعضاء القاعدة لجأوا الى بغداد". هل هذا صحيح؟ صدام حسين يقود نظاماً علمانياً بطش بالإسلاميين على مدى ثلاثة عقود، والجماعات الإسلامية من نوع القاعدة عدوة للأنظمة العلمانية العربية وتريد قلبها. غير انني اختار من كلام دانيال بنجامين الذي عمل في مجلس الأمن القومي من 1994 الى 1999، ويملك معلومات اميركية عن الموضوع. بنجامين هذا كتب في "نيويورك تايمز" وأشار الى العداء بين المنظمات الإسلامية والنظام في بغداد، إلا أنه زاد ان مجلس الأمن القومي طلب في اواسط التسعينات من خبراء اميركيين التحقق من معلومات عن وجود علاقات بين نظام صدام حسين والقاعدة، وعاد الخبراء سنة 1998 بتقرير يقول ان لا علاقة بين الطرفين. وربما زدنا هنا ان جورج تنيت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية، قال قبل يومين فقط، في رسالة الى الكونغرس، انه غير واثق من خطر العراق على المصالح الأميركية. مثل هذا الكلام لا يناسب الرئيس بوش، فهو يذكرنا بالفتوة او القبضاي الذي يرى رجلاً أضعف منه في الشارع فيقترب منه مهدداً ويقول: "انت تشتم أبي؟" ويرد الرجل مستغرباً: "أنا لم أفتح فمي". ويقول الفتوّة: "وتشتم امي كمان". هناك ألف سبب عراقي لإزاحة نظام صدام حسين، ونرجو ان تستطيع المعارضة العراقية في الشمال والجنوب والخارج ازاحته بمساعدة محدودة من الأميركيين وغيرهم، وإقامة نظام ديموقراطي تعددي لجميع العراقيين في بغداد. ولكن عندما تخترع الإدارة الأميركية الأسباب لقلب النظام، فإن ثقة المواطن العراقي والعربي العادي تتلاشى وهو لا يعرف ماذا تخطط الولاياتالمتحدة لعراق ما بعد صدام حسين.