من اللافت أن يصل الحب بين شعب وأميره إلى ما وصل إليه في هذه التجربة. فذكاء ونزاهة الأمير كلاوس، الألماني المنشأ الذي كان زوج بياتريس ملكة هولندا طيلة 36 عاماً، جعلاه محبوباً جداً لدى الشعب الهولندي. وبخلاف بقية افراد العائلة المالكة، كان شخصية نافذة على صعيد سياسة التنمية الخارجية لهولندا، موطنه الثاني. واعترافاً منها بما قدمه، أنشأت الحكومة "صندوق الأمير كلاوس" في عيد ميلاده السبعين عام 1996. قال الأمير، الذي توفي بعد معاناة من مرض الشلل الرعاشي وإثر اصابته بذات الرئة، ان "الناس لا يولدون مبدعين، بل يطورون انفسهم". وينشط "الصندوق"، الذي منح 65 جائزة لأشخاص ومنظمات مبدعة في العالم النامي، بالاضافة الى دعم اكثر من 500 نشاط ثقافي لفترة اولى تمتد خمس سنوات - مُدّدت مؤخراً من قبل الحكومة عشر سنوات اضافية. والحال أن هذا الدعم مستقل كلياً عن المصالح الهولندية في الخارج، وهو موقف راديكالي بالنسبة الى منظمة ترعاها الحكومة. والحقيقة أن هولندا لم تكن في البداية على نفس موجة أميرها، بل هي لم تكن مرحّبة به هو نفسه. فقد وافق برلمان لاهاي في 1965 على مضض على زواجه من ولية العهد بياتريس التي كان عمرها آنذاك 27 عاماً. وفي حملة احتجاج شارك فيها اعضاء برلمان وفوضويون على السواء، وقّع 300 الف شخص عريضة ضد زواجها من كلاوس فون امسبيرغ، الديبلوماسي من المانيا الغربية الذي خدم في الجيش الالماني خلال الحرب العالمية الثانية لكنه لم يشارك ابداً في عمليات قتالية، وانهى الحرب كمترجم للأسرى لدى الحلفاء. وخلال حفل الزواج الذي أُقيم في امستردام بعد ذلك بعشرة اشهر، انفجرت قنبلة دخان على مقربة من العربة الذهبية التي كانت تقل العريسين. أما في اعقاب زواجهما، فانهمك كلاوس وبياتريس، التي صعدت الى العرش في 1980، في اداء المهمات والرحلات الملكية، لكنهما حرصا على تنشئة ابنائهما الثلاثة بعيداً عن الاضواء. وامتازت حياتهما العائلية بأجواء فكرية حيوية مسؤولة فطلب قبل اربع سنوات، مثلاً، من ولي العهد الامير ويلم الكسندر ان يتخصص في قضايا المياه بسبب شح الماء المتزايد في العالم. وكان الاهتمام بمشاكل البلدان الفقيرة احدى القضايا التي شغلته على امتداد حياته. وظل حتى مماته مستشاراً خاصاً لوزير الخارجية للتعاون التنموي، وهو منصب غير مألوف أبداً بالنسبة الى فرد من العائلة المالكة. لكن هذه التجربة عززت قناعاته بأن الكثير من المساعدات الغربية للعالم الثالث، والتي تقدم في احيان كثيرة بشكل مساعدات مالية او علمية وتكنولوجية، نوع مخفي من الاستعمار والامبريالية. وكان الامير يؤكد على ان إدراج الثقافة في سياسة التنمية يشجع على احترام الذات والاستقلال في اي بلد، وهي نظرية ما تزال تحتل موقعاً طليعياً في الوقت الحاضر. لقد اعتاد الأمير قبل مرضه المشاركة في كل جوانب نشاط "صندوق الأمير كلاوس". وحتى عندما كان الصندوق يقرر منح جائزة قد يراها هو مثار جدل، كما حدث عندما مُنحت قناة "الجزيرة" القطرية الجائزة الاساسية لعام 1999، فإنه كان يمحض القرار أقوى التأييد. وبرز دوره الرئيسي كمفكر ملهم، وهو ما فعله في حفل تقديم جوائز العام 1998 للأزياء الافريقية الذي أُقيم في القصر الملكي في امستردام. فقد نزع ربطة العنق وحض الرجال، وسط جمهور ضم شخصيات بارزة، على ان "يحرروا" أنفسهم. وفي خطاب ألقاه في مناسبة أخرى للصندوق، عبّر عن مدى حبه لزوجته التي تركها، برحيله قبل أيام، لكنه لم يتركها. ا