في المطر والسحاب قد يعجز محبّو جبران خليل جبران عن قراءة مراجعة سيرته الأخيرة في بعض الصحف البريطانية. «خليل جبران: أبعد من الحدود» الصادر عن «هِد أوف زوس» لجان جبران وخليل ج. جبران يبدأ بمقدمة لسلمى حايك تقول فيها إن «النبي» الذي باع أكثر من أربعين مليون نسخة واحد من أكثر الكتب شعبية قاطبة. أو «أكثرها إحباطاً» وفق ناقد «ذا تايمز» الذي يتساءل ما الذي يتساءل في مقال ساخر ما إذا كانت الكحول سبب التشوّش في «النبي». حين كان الناقد طالباً جامعياً في السبعينات، يقول، كان التظاهر بالولع بجبران مقدمة ضرورية للجنس، لكن الأذواق تتغير. خلت أعمال جبران المزعجة الابتذال من الحياة، وهي تبدو اليوم رديئة ومحرجة تماماً. شعره النثري واهن، عاطفي، ضبابي وخالٍ من المعنى، ورسومه غير بارعة. وجد من يراه «متنوعاً مثل عبقري نهضوي» ويفضّل مائياته وفحمياته على رسوم وليم بليك، لكن نجاح جبران نبع ربما من انبهار الغرب بالشرق. ترجم الأميركي إزرا باوند الشعر الصيني، تأثر الإرلندي- الإنكليزي وليم بتلر ييتس بمسرح نو الياباني، رسم الفرنسي هنري ماتيس المحظيات في المغرب، ونال الهندي رابندراناث طاغور نوبل الأدب. وُلد جبران في بشري في 1883، وهجر والده المقامر، المدمن على الكحول مع والدته وإخوته الى بوسطن حيث استقرّت جالية عربية. كانت والدته كاملة ابنة كاهن، وبثّت فيه الروحانية التي ميّزته وجعلتها تقرّر استثناءه من عمل الأسرة في بيع المطرزات والحليات الصغيرة. كان مثالاً كاملاً للتقاليد الروحية والدينية في الشرق الأوسط، خصوصاً في مراهقته الباكرة حين بات الموديل المفضل للمصور الثري، الغريب الأطوار، المثلي المكبوت ربما، فردريك هولاند داي. آمن هذا بأنه رامبرانت الكاميرا، وألبس الفتى الجدّي الرداء الشرقي والعمامة، وصوّره وهو يداعب السيف ويجلس على جلد الفهد وسط دخان البخور. اعتاد جبران تفاني الآخرين له وتدليلهم، وعاش طوال حياته بفضل رعاية النساء خصوصاً. فُتن بجوزفين بيبودي الجميلة التي كبرته بتسعة أعوام، واعتبرها رمز الأنوثة الملائكية البارزة في رسومه. عرّفته الى خرافات موريس ميترلنك الذي آمن بأن الفرد واحد مع المطلق، وأن أرواح إخوتنا تحوم فوقنا دائماً طلباً لملاطفة. كتب لها: «قلت صباح الخير لتوّي للوردة التي قدمتها لي الليلة الماضية. قبّلت شفتيها». لكنها هجرته وتزوجت غيره، فأحس بالإذلال وفق سيرة روبن ووترفيلد «نبي» التي صدرت في 1998 لأنها منحته القبول الذي احتاج اليه في حين عامله أهل بوسطن كأنه قرد يؤدي الحركات التي تلقّنها كما قال. ماري هاسكل التي كبرته سناً أيضاً عاملته كأنه ابنها. استأجرت له استديو، ونظمت معارضه التي مدح النقاد اللطفاء السديم الغامض و «أرض الأحلام» فيها فبيعت بسرعة. كانت في السابعة والثلاثين حين طلب الزواج منها، لكنه ماطل في تحديد الموعد فاكتفت مديرة المدرسة بالعمل سكرتيرة له، ونقّحت مخطوطاته فباتت أقل تكلفاً. في بداية عقده الثالث فقد ملامحه الصبيانية، وتوّفي بتشمّع الكبد في 1931 عن 48 سنة بعد أن خسر مبلغاً كبيراً في مشروع عقاري. مراجعة «ذا تلغراف» لسيرة جان وخليل جبران تعتبر الكاتب مؤسّس حركة استبدلت الدين التقليدي الصارم بالبديهيات الخفيفة لروحانية العصر الجديد. كُتب «النبي» لمخاطبة المجتمعات الخارجة من الحرب التي فقدت إيمانها لكنها بقيت تحس بشوق الى الروحاني. شبّه جبران عمله ب «كتاب يونان»، وتقول: «ذا تلغراف» إن ذلك صحيح في جانب واحد. المصطفى واحد من المواسين الذين أغضبوا يونان لأنهم كاذبون و «أطباء بلا قيمة». يقول كاتبا السيرة إن جبران الفتى أدرك أنه يستطيع النجاح إذا لعب ورقة النموذج الشرقي، لكن ذلك أوقعه في شرك كافح سنيناً للتخلص منه. حين كتب في صحف بوسطن العربية عن الكفاح ضد الاستعمار العثماني، لم يهتم المعنيون بالأدب والفن في المدينة، وفضّلوا بقاءه جمالياً نائياً. تشكو الصحيفة من غموض المؤلفين «الذي يغطي خطايا كثيرة» لا سيما منها علاقة جبران بالنساء، وتحيل القارئ الى سيرة روبن ووترفيلد «نبي». فقد إيمانه بعد وفاة شقيقته ثم والدته وشقيقه بالسلّ، واعتبر نفسه وثنياً. حافظ على دعم هاسكل المادي وصدّها عاطفياً بالقول إنه يعيش في منطقة المطلق البريئة من الجنس، ولا يستطيع التورط في المشكلات البشرية، لكنه نام مع كثيرات غيرها. بقيت متفانية، مفتونة، فادعى أن روحه تسامت في «رحلات نجمية» وأنه فنان كبير كمايكل أنجلو، ويفوق بودا حكمة. زعم أنه عمل على نظرية النسبيّة قبل ألبرت أينشتاين، وأنه قادر على التجسّد في المطر والسحاب. «كنت صخرة أيضاً، لكنني إنسان هواء أكثر من أي شيء آخر». قال إن أوغيست رودان لقّبه بوريث وليم بليك، ولاءمه استخدام العبارة في الترويج بعد وفاة النحات الفرنسي. حين زار ووترفيلد لبنان في تسعينات القرن الماضي وجد قبره فارغاً كعمله، تقول الصحيفة.»ربما كان في إحدى رحلاته النجمية». «الفتيان في الزنك» لم تؤلف سفيتلانا ألكسيفتش روايات عن الشباب والحرب والموت بل نقلت روايات الشباب عن الحرب والموت. مع ذلك خالطت السياسة الأدب، وكوفئت الصحافية الروسية بنوبل في 2015. في آخر الثمانينات أصدرت شهادات مواطنيها الجنود المقاتلين في أفغانستان في «الفتيان في الزنك» وأثارت ضجة. اقتنع المواطنون بالدعاية الرسمية القائلة إن أفغانستان ممتنّة للاتحاد السوفياتي الذي يوجّه بلداً متأخراً نحو الاشتراكية، ولم يجد صحافيون كثر سبباً لتغطية الحرب، أو مساءلة الخطاب الرسمي. لكن الأفغان قاتلوا السوفيات، وعاد خمسة عشر ألف جندي منهم الى بلاده في تابوت من الزنك خلال حرب الأعوام العشرة. كانت نسبة كبيرة منهم في الثامنة عشرة أو أكبر سناً بعام واحد، وقلة فكرت بالبطولة. سخر مسعف من الوهم والدعاية. لا يموت الجندي الجريح بطلاً ستالينياً يصاب برصاصة في رأسه فيرفع ذراعيه ويسقط. الحقيقة أن الرصاصة تخترق جمجمته فيتطاير دماغه ويركض نصف كيلومتر ليجمع القطع قبل أن يقع. صدر «الفتيان في الزنك» بالإنكليزية عن «بنغوين مودرن كلاسيكس» وقدّم الشهادات الأليمة لجمهور مختلف. يقول رقيب إن الجندي السوفياتي «أرخص جنود العالم، أقلهم شكوى وأكثرهم معاناة. غير مجهّز جيداً، وغير محمي. يُستخدَم ويُرمى كما كان الحال في 1941 وكما سيكون بعد خمسين عاماً. لماذا؟» شعر جندي نَفَر بالبرد وارتجف حين جُرح ورأى دمه للمرة الأولى. «شعرت بالبرد فيما كانت درجة الحرارة 40. في الشمس الحارقة». جندي آخر كتب: «تعادلنا افتراضاً مع الرجال الذين قاتلوا في الحرب الكبيرة الوطنية. الفارق أن هؤلاء دافعوا عن أرضنا، لكن ماذا كنا نحن نفعل؟ لعبنا دور الألمان». جندي في فرقة المشاة تذكر صديقاً طُلب منه قتل أفغاني جريح لتخليصه من عذابه. تناول السكين ووضع النصل على الرقبة ثم على الصدر. تطلّب قتله وقتاً طويلاً، وحجز الجندي الصديق مكانه في جهنم. دخلت فرقة مدفعية قرية وطلب أفرادها الطعام وهم يعرفون أن عادات الضيافة فرضت على الأفغان إطعام الغرباء الجائعين. خرج الجنود من القرية فضرب أهل القرية النساء اللواتي أطعمنهم بالعصي ورجموهن بالحجارة مع أطفالهن حتى الموت. تنتقل ألكسيفتش بين مكانين في رصدها رحلة «الخزامى الأسود» للفتيان في الزنك. الجنوب الحار حيث القتال الذي يفجّر الشبّان ويوحّشهم ويفسدهم، والشمال البارد حيث الإصابة بصدمة الحرب والأمهات اللواتي يصَبن بالجنون إن لم يعد أولادهن. «تريدين الحقيقة، حضرة السيدة الكاتبة؟» يسأل جندي سابق بعد عودته بخمسة أعوام.»الموت سهل، والعيش شاق». يسترجع مع زملائه القتل الكثير الذي ارتكبوه، أشلاء الزملاء التي جمعت في سطل، الخوذات التي أعيد تدويرها من الحرب العالمية الثانية، مستشفيات الميدان البدائية، لعنهم في أفغانستان حيث توقعوا الاستقبال الحار، ولعنهم في الوطن حيث اعتبروا مدمنين على المخدرات وتجاراً في السوق السوداء. «خسرنا الحرب وانهارت البلاد» تقول امرأة. «أشتم الحكومة والحزب مرة أخرى مع أنني شيوعية. أريد أن أعرف ما الذي اقترفناه لنستحق ما حدث. لماذا لفّوا ابني في الزنك؟ ألعن نفسي».