طوال مرحلة الانتفاضة تعرّض الفلسطينيون لابتزاز مراهنات سياسية، كان على قيادتهم أو قياداتهم رفض الانجرار إليها. وللأسف حدث العكس، حيث ورّطت الانتفاضة في حبائل هذه المراهنات، أو التوهّمات، بسبب عدم تقدير القيادة الفلسطينية لمخاطر التطورات الحاصلة اسرائيلياً ودولياً وإغفالها ضرورة تحديد مسارات الانتفاضة بما يتناسب مع إمكانات شعبها، وايضاً، بسبب الخلاف السائد في الساحة الفلسطينية في شأن عملية التسوية وخضوع فصائلها للتنافسات كما للمداخلات والتأثيرات الاقليمية. وعلى أية حال فقد بينت التجربة بأن هذه المراهنات حمّلت الانتفاضة أكثر مما تحتمل واستنزفت قواها وادخلتها في مواجهات غير محسوبة النتائج، وأدت الى الإضرار بالشعب الفلسطيني وقضيته. توهّمت القيادة الفلسطينية أنه بامكانها قيادة الانتفاضة والمفاوضة أو الثورة والسلطة، في آن واحد، لكن هذه الاستراتيجية لم تنجح، ليس بسبب التحول للمقاومة المسلحة، كما يعتقد البعض، وإنما بسبب طريقة القيادة في ادارة الوضع الفلسطيني. فهذه القيادة، مثلاً، وجدت نفسها غير قادرة على حمل مسؤولية ادارة الانتفاضة، بسبب قيادتها للسلطة، وبدلاً من حل هذه الاشكالية بالسماح بنشوء قيادة ميدانية، تتمتع بهامش من الاستقلالية، حالت دون ذلك، ما جعل الانتفاضة حركة من دون قيادة. وهكذا فضّلت القيادة الفلسطينية العمل بالوسائل القديمة، بحيث تقول الشيء وتعمل نقيضه كي تبقى تحتكر المسائل بيدها، ولكن ذلك لم يجنّبها المسؤولية بل وضعها في دائرة الاستهداف الاسرائىلي ومعها الكيان الفلسطيني والقضية الفلسطينية. والنتيجة ان هذا الوضع سهّل على اسرائيل عزل هذه القيادة دولياً، بدعوى مراوغتها وتورّطها بالتشجيع على العمل المسلح، خصوصاً بعد حادثة باخرة السلام وتزايد العمليات الاستشهادية ودخول كتائب الاقصى فتح على هذا الخط في مطلع العام 2002. على الصعيد الداخلي، تصرّفت القيادة الفلسطينية السلطة وكأنها فصيل من الفصائل، مستجيبة لمزاج المعارضة حيناً ولانفعالات الشارع حيناً آخر، ما جعلها تحجم عن أخذ الامور بيدها لفرض استراتيجية سياسية وكفاحية للانتفاضة بالوسائل المعقولة للحفاظ على سلامة مسارها، الامر الذي ضيّع الانتفاضة التي بدت بلا قيادة، وبلبل الشارع الذي لم يعد يعرف أين سيصل، وبدد التضحيات والبطولات التي بذلها الشعب. الاخطر من ذلك ان القيادة الفلسطينية لم تبال بالتحولات الخطيرة التي حدثت خلال عامي الانتفاضة، وخصوصاً صعود شارون الى سدة السلطة في اسرائيل آذار مارس 2001 والهجوم الارهابي على نيويورك وواشنطن في 11/9/2001، والتي كان ينبغي دراسة تأثيراتها على الشعب وانتفاضته وقضيته وهذا لم يحصل اذ استمرت الامور على ما هي عليه وكأن شيئاً لم يكن. من الناحية المقابلة، فإن حركة حماس، بدورها، تتحمل مسؤولية كبيرة في تشويش الخطاب السياسي للانتفاضة وادخالها في مواجهات عسكرية غير محسوبة. إذ باتت الانتفاضة عملية لتحرير فلسطين لاخراج آخر يهودي من أرضنا، على الرغم من ان الانتفاضة هي، أصلاً، حالة فعل في الضفة وغزة المحتلتين الامر الذي يفترض التطابق بين خارطة الانتفاضة الجغرافية والبشرية وخارطتها السياسية، خصوصاً ان من غير المعقول تحميل فلسطينيي الضفة والقطاع، في ظروفهم الصعبة والمأسوية، مهمة حل كل جوانب القضية الفلسطينية. وما فات حماس هنا، ايضاً، ان المراهنة على العالمين العربي والاسلامي، هي في غير محلها، كما ثبت في أكثر من تجربة، بغض النظر عن العواطف والنوايا، فالشعب الفلسطيني ظلّ وحيداً في مواجهة البطش الاسرائىلي، طوال عامين، لأن السياسة في المحصلة هي نتاج فاعلين سياسيين وليست نتاج بيانات أو مزايدات في الفضائيات. والمفارقة ان الزمن العربي والدولي الذي طرحت فيه هذه الشعارات والمراهنات في زمن التسوية والمفاوضات والشرعية الدولية بغض النظر عن رأينا ورغباتنا. والأنكى ان اسرائيل وظفت الشعارات والمراهنات المطروحة، على رغم ان موازين القوى والمعطيات السائدة لا تؤكد صدقيتها، لترويج ادعاءات شارون المتعلقة بأن الصراع هو على وجود اسرائيل، ولتنفيذ خطط شارون المبيتة لكسر الفلسطينيين وتقويض وجودهم السياسي. وكما بالغت حماس في طرحها السياسي بالغت، ايضاً، في مراهنتها على العامل العسكري وخصوصاً على دور العمليات الاستشهادية الحديث عن توازن الرعب وصواريخ القسّام 1 و2. وفي الواقع فإن هذه العمليات التي جرت، خصوصاً، ضد أهداف عشوائية وبتوقيتات غير موفقة من بدون ارتباط بهدف سياسي ممكن، شوشت على استراتيجية المقاومة المسلحة في الضفة والقطاع وأضعفت شرعيتها دولياً وسهلت على شارون توحيد المجتمع الاسرائىلي والامعان في تدمير المؤسسات الفلسطينية والبطش بالفلسطينيين مستغلاً تداعيات حدث 11 ءيلول، على الصعيد الدولي، لوصم المقاومة الفلسطينية بالارهاب. من ناحية اخرى، فإن مراهنة حماس على العمليات الاستشهادية، بغض النظر عن نتائجها السلبية والقاسية على الشعب الفلسطيني وانتفاضته، لم تفد بإضعاف الوجود الاسرائىلي العسكري والاستيطاني في الاراضي المحتلة، اذ ان هذا الوجود تعزز باعادة الاحتلال والسيطرة على مختلف نواحي حياة الفلسطينيين، كما ان التفاف الاسرائىليين حول شارن لم يضعف بل ازداد، اما فكرة نقل التجربة اللبنانية فلم تثبت صدقيتها، لاختلاف موقف الاسرائىليين من الموضوعين. والواضع انه وعلى رغم ان معدل قتلى الاسرائىليين، خلال الانتفاضة، أكثر بعدة اضعاف من مثيلهم في لبنان وعلى رغم انتشار الخوف والهلع في المدن الاسرائىلية ذاتها، الا ان ذلك لم يصب 1 في صالح تيار الخروج من الاراضي المحتلة، وإنما العكس من ذلك فقد تضاءل نفوذ هذا التيار بعد ان اعتبر الاسرائىليون معركتهم مع الفلسطينيين بمثابة دفاع عن البيت! والمعنى ان الخوف لدى الاسرائىليين زاد من تشددهم ومن مطالبتهم حكومتهم البطش بالفلسطينيين وتحطيمهم، ولهذا الامر اسبابه، المعروفة، والتي لم يجر تفحصها أو المبالاة بها. اما في مجال الصراع العسكري فإن العمليات الاستشهادية اضرت بالعدو اقتصادياً وبشرياً وأفادته سياسياً، على الصعيدين الاسرائىلي والدولي، ولكنها بالمقابل بدل ان تستنزف اسرائيل استنزفت الفلسطينيين وسهلت على اسرائيل توجيه ضربة قاصمة لهم ولشبكة نشطاء الانتفاضة وكوادر المقاومة. ومشكلة حماس انها بدل ان تستخدم استراتيجية الضعيف لمواجهة استراتيجية القوي وهي الاستراتيجية المعتمدة في مقاومة الاستعمار، فضلت اللعب بملعب اسرائىل في الصراع بالضربات القاضية وحصل ما حصل. والنتيجة ان مراهنة حماس على العمليات الاستشهادية لم تكن موفقة. وهكذا فإن الفلسطينيين وبعد عامين من الانتفاضة يجدون أنفسهم مجدداً في بداية الطريق الصعب والطويل، وعلى الرغم من كل البطولات والتضحيات التي بذلوها، والتي ما زالوا مستعدين لبذلها في سبيل حريتهم وكرامتهم، وهو ما أكدوه في التظاهرات الاخيرة التي أعادت الانتفاضة الى الشارع. والدرس الاساسي هنا يفيد ان التاريخ لا تصنعه فقط البطولات والتضحيات وانما تصنعه ايضاً الحسابات السياسية الدقيقة والمسؤولة اذ ان المسألة مسألة ارادة وادارة وإمكانات، في آن معاً. * كاتب فلسطيني.