في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة قبل عقد من الزمن، فقدت سياسة أميركا الخارجية العنصر المحوري أو الجوهر الذي نظمها وأعطاها صفاتها الرئيسية. إذ بعد حوالى 40 سنة من استراتيجية قامت على "سياسة الاحتواء" و"توازن الرعب النووي"، وجدت أميركا نفسها من دون مفهوم استراتيجي في مقدوره تنظيم وتوجيه وتبرير سياستها الخارجية. ومن أجل ايجاد ذلك المفهوم، أو بناء مفهوم جديد يتعامل مع الواقع الجديد الذي أفرزته ظروف انهيار الاتحاد السوفياتي وافلاس الفكرة الشيوعية، قامت مؤسسة "كارنيجي للسلام" ومؤسسة "التراث"، كل على حدة، بإعداد تقرير يعكس وجهة نظرها ووجهة نظر القوى الاجتماعية التي تشاطرها الرأي والموقف من أحداث الماضي، وحقائق الواقع واحتمالات المستقبل وأهدافه. جاء تقرير مؤسسة "كارنيجي" ليعترف بأن الواقع الجديد يختلف من حيث الكم والنوع عن الواقع القديم، ويقول بأن أميركا التي خرجت منهكة من الحرب الباردة ليست مستعدة للتعامل مع الواقع الجديد بايجابية وفاعلية، لذلك دعا التقرير إلى إعادة التفكير في طرق العمل والتنظيم، وإلى بناء علاقات أميركا الخارجية على أسس جديدة تقوم على مفهوم معقد يتمحور حول التعاون مع الدول الحليفة والاعتراف بتعدد القوى الكبرى والاهتمام بالعلاقات الاقتصادية للحد من الانفاق العسكري. أما تقرير "مؤسسة التراث" فقد انطلق من فرضية تقول بأن العالم لم يتغير من حيث الجوهر، وان الدولة، أية دولة، تعيش في عالم تسوده الفوضى التي تهدد كيانها ووجودها، وان عليها بالتالي بناء قوتها للدفاع عن نفسها من أجل الحفاظ على مصالحها ومواقعها. ولذلك جاء التقرير تحت عنوان إعادة هيكلة العالم ليكون مكاناً آمناً لأميركا. وهكذا يبدو واضحاً الفرق بين تقرير مؤسسة كارنجي الذي دعا أميركا إلى التغير لتكون في وضع جديد يسمح لها بالتعامل مع الواقع الدولي الجديد، وتقرير مؤسسة التراث الذي دعا أميركا إلى تغيير الواقع الدولي لخدمة مصالحها. ومما تجدر الاشارة إليه في هذا المجال أن التقريرين، وعلى رغم تباين الفرضيات والأهداف، اتفقا تماماً حيال منطقة الشرق الأوسط، ولذلك دعيا إلى دعم إسرائيل وتعميق ما تربط أميركا بها من علاقة استراتيجية، وإلى حماية آبار النفط العربية وأصدقاء أميركا في المنطقة، وإلى استمرار الموقف العدائي في العراق وإيران، وإلى التخوف من الإرهاب واعتبار الإسلام مصدراً رئيسياً له. وفي هذا المجال اقترح التقريران احتواء العراق وإيران وحرمانهما من إمكان بناء قوى اقليمية قادرة على تهديد مصالح أميركا في منطقة الخليج، واستمرار الوجود العسكري الأميركي في المنطقة حتى من دون دعم من دول الخليج العربية، والاستمرار في التعاون العسكري مع الدول العربية "المحافظة" في الخليج، وإلى عمل ما يلزم لتأمين امدادات النفط والحيلولة دون نجاح أية قوة أخرى في السيطرة على مصادره. عندما تسلم الرئيس جورج ووكر بوش الحكم في عام 2001 بدا واضحاً ميل إدارته إلى اتباع توصيات تقرير مؤسسة التراث المحافظة. لكن السياسة والخطوات التي رآها مناسبة للوصول إلى الأهداف اختلفت بعض الشيء عما اقترحه التقرير المشار إليه. لقد رأى الرئيس، وهذا ما أكده تقريره الأخير عن "استراتيجية الأمن القومي"، ان إعادة هيكلة العالم ليصبح مكاناً آمناً لأميركا تستدعي فرض الهيمنة الأميركية على العالم، ورفض غالبية الاتفاقات الدولية، والابتعاد عن التحالفات التي تقوم على المشاركة في الرأي، والانفراد في اتخاذ القرارات المتعلقة بالنزاعات الدولية ومعاقبة الدول التي ترفض الانصياع للأوامر الأميركية، والتقليل من شأن المنظمات الدولية، وفي مقدمها هيئة الأممالمتحدة. يحتوي تقرير "استراتيجية الأمن الأميركية" على الكثير من الأفكار المهمة التي تركز على مبادئ وقيم عالمية عالية. لكن كل القيم والمبادئ التي يذكرها التقرير ويدعي أن أميركا تلتزم بها وتعمل على تحقيقها، تبدو مسخرة تماماً لخدمة الأهداف الأميركية ومصالحها،، ومن أجل تعميق وتكريس الهيمنة الأميركية على العالم. ولهذا يقع التقرير في العديد من التناقضات التي تجعله يفقد مصداقيته كاستراتيجية سلام وتنمية، كما يدعي بوش، ويبدو على حقيقته برنامج عمل للتسلط، ومثالاً للعنجهية، وأداة للتهديد والترهيب والترغيب. إذ بينما يقول التقرير إن أميركا تسعى إلى بناء توازن دولي للقوى من أجل السلام، يقول بأن أميركا تؤمن بأن على كل دولة مسؤوليات لا بد وأن تقوم بها، ثم يعطي التقرير أميركا الحق في تحديد طبيعة تلك المسؤوليات وكيفية الوفاء بها. وبينما يقول التقرير إن أميركا تؤمن بأنه ليس بإمكان أية دولة بمفردها أن تبني عالماً مستقراً وأكثر أمناً ورفاهية، وان المنظمات الدولية والمؤسسات الدولية بإمكانها مضاعفة قوة الشعوب المحبة للسلام، يقول في مكان آخر بأن على أميركا التصرف بمفردها - إذا احتاج الأمر - لحماية مصالحها وحماية مواطنيها. كذلك يقول التقرير إن الالتزامات الدولية هي قضايا لا بد وأن يؤخذ بكل جدية، وان الوقوف إلى جانب المبادئ لا يجوز أن يكون رمزياً فقط، بل فعلياً وفاعلاً من أجل تحقيقها، بينما تقوم أميركا بدعم إسرائيل في عدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني وفي اتباع سياسة عنصرية والقيام بأعمال عسكرية اجرامية. إن أخطر ما في الوثيقة الأميركية الجديدة هي تبني سياسة تقوم على الحرب الوقائية، أو على الهجوم على الأعداء المحتملين من دون استفزاز أو مبرر. يقول بوش: "إن المنطق والدفاع عن النفس يستدعي قيام أميركا بالتحرك ضد الأخطار المحتملة قبل أن تصبح أخطاراً حقيقية". أما الخطوة الخطيرة الثانية فهي الالتزام باستمرار التفوق العسكري على العالم والحيلولة دون السماح لأية قوة أخرى بامتلاك ما يكفي من القوة العسكرية والمعارف التكنولوجية لتحقيق التوازن العسكري مع أميركا أو التفوق العسكري عليها، وهذا - في حال الالتزام به - يعني أن أميركا ستكون مضطرة لشن حرب ضد الصين وربما روسياوالهند مستقبلاً، أي الدخول في حروب قد لا تنقطع وبالتالي بناء عالم تسوده الفوضى والكوارث والفقر وليس الأمن والسلام والتقدم. وبينما يتحدث التقرير وباسهاب في بعض الأحيان، عن سياسة أميركا تجاه معظم القوى الدولية وكيفية التعامل معها وموقف أميركا منها، يهمل التقرير اهمالاً يكاد يكون كاملاً البلاد العربية والإسلامية. إذ يقول فقط بأن أميركا ستساعد الدول الإسلامية التقدمية، وبينما يتحدث عن التحالف مع الهند كحليف، يهمل ذكر باكستان التي كانت ولا تزال حجر الأساس في الحرب على "القاعدة" و"طالبان". إن الحرب على الإرهاب التي يركز عليها التقرير، والحرب المحتملة على العراق والدفاع عن إسرائيل واهمال العالم العربي، كلها مؤشرات إلى أن الحرب الوقائية تستهدف العرب أساساً. وهذا يستدعي يقظة وتحركاً في اتجاهين: توحيد الجهود العربية ومواجهة العدوانية الأميركية. * استاذ الاقتصاد السياسي الدولي، جامعة الاخوين - المغرب.