في خريف العام 1998 إنشدت أعين متفرجي السينما الى فيلم "وصلك بريد" توم هانكس وميغ راين، والمقصود بريد الكتروني يتحدث عن الانترنت كشبكة حارة من العواطف. وفي أقل من سنة، كادت العبارة في عنوان الفيلم ان تتحول أزمة حادة في المعلوماتية، وتمطت عبر جانبي المحيط الاطلسي. فقد طالبت شركة "اي او ال" AOL، بألاّ يستخدم أحد في العالم كله عبارة "وصلك بريد إلكتروني"، وظهرت تكراراً في ذلك الفيلم، لان الشركة تستعملها في برنامجها البريدي. واستثيرت حفيظة صحف أوروبا، مثل "اللوموند" الفرنسية، على هذا الميل الاحتكاري الغريب، وفزعت من وصول يد الاحتكار الى اللغة التي هي ارث البشرية كلها. وتقاطع ذلك مع قضية الاحتكار المرفوعة ضد "مايكروسوفت" بسبب محاولتها فرض برنامجها الخاص لتصفح الانترنت "اكسبلورر". ثم جاءت انتفاضة "سياتل" التاريخية التي طوت سعي "اي او ال"، وبينت للأعين مدى الضرر الذي ينجم عن تشدد الشركات في مسألة حقوق الملكية الفكرية. ولاحقاً، تكرر هذا المشهد عينه في سيناريوهات متعددة، آخرها الصراع الذي دار بين الشركات والدول النامية على الحق في انتاج ادوية رخيصة لعلاج الايدز، وهو ما قاومته الشركات، الى ان توصل مؤتمر الدوحة الى صوغ تسوية في شأنه سمحت بانتاج الادوية، واشرت الى ضرورة فرض هوامش من المرونة على الشركات في مسألة الملكية الفكرية. وتعطي كلتا القصتين، أي عبارة "وصلك بريد إلكتروني" وانتاج ادوية الايدز، نموذجاً لما يسميه اهل صناعة الكومبيوتر ب"المحتوى"Content. ولأن الشيء بالشيء يذكر، ففي العام الجاري، سجلت جامعة ماساشوستس سابقة تاريخية باعلانها العزم على وضع مقرراتها ومحتويات مكتباتها كافة على الانترنت، واتاحتها مجاناً للجميع. وهذا نموذج آخر ل"المحتوى". وتطلق هذه الكلمة على كل نتاج فكري يمكن ايصاله الى الكومبيوتر، أو وضعه على شبكة الانترنت. وتعتبر مواد الترفيه، مثل الموسيقى والأغاني والالعاب وافلام السينما والكارتون والمسلسلات وما اليها، من اهم مكونات المحتوى. ولأن الشبكة الى توسع مطرد في الدخول الى تفاصيل الحياة اليومية للبشر في العالم، ولأنها من العوامل المهمة في مستقبل التطور العلمي، باتت مسألة المحتوى من اهم شواغل المعلوماتية راهناً. "آي أو أل" ومشكلة المحتوى وشهد العام 2001 ولادة عملاق في المحتوى على الانترنت. إذ اشترت شركة "آي أو أل" مؤسسة "تايم وارنر" الاعلامية الضخمة التي تملك شبكة التلفزة سي ان ان ومجلتي "تايم" و"فورتشن"، واستوديو "ورنر براذرز" WB الشهير. وأولى ما أنتجته الشركة الجديدة "آي أو أل تايم وارنر" كان 3 افلام سينمائية: "هاري بوتر وحجر الفلاسفة" و"اسياد الحلقات" و"اوشنز 11"، وكلها سجلت ارقاماً مذهلة في الايرادات. وسرعان ما دخل العملاق في نزاعات احتكارية، كان أولها عن نظام المراسلة الفورية ل"آي أو أل"، ووجوب فتحه لغير المسجّلين في موقعها على الإنترنت. وتمثلت الثانية في شبكة الكابلات للشركة، وفرضت عليها لجنة التجارة الفيديرالية فتح ثلاث شركات منافسة في مجال تزويد خدمات الإنترنت. أما النزاع الثالث فمحاولة "آي أو أل تايم ورنر" شراء الكابل العائد لشركة الاتصالات الاميركية "آي تي أند تي". وتلقى هذه المحاولة معارضة شرسة من انصار مكافحة الاحتكار، وعلى رأسهم "المؤسسة الاميركية لمكافحة الاحتكار"، التي حذّرت من مغبّة هذه العملية. ونبهت المؤسسة الى المخاطر الناجمة عن بروز شركة تملك الجزء الأكبر من الكابلات في البلاد، ففي هذه الحال، يبرز احتمال ان تروج لما تنتجه هي اولاً. ويبدو هذا الاحتمال منطقياً، لكنه يحمل خطر اقصاء ما تقدمه الشركات الاخرى من محتوى، وهو وضع احتكاري بامتياز. ويكاد أن ينطبق على المحتوى واحتكاراته تعبير "هذا مشهد رأيناه قبلاً"، والاشارة هنا الى اوضاع في برامج المعلوماتية وتطبيقاتها. وغالباً ما تقدم الشركات العملاقة تطبيقات وبرامج موضّبة في رزم أو أطقم تحتوي على عدد منها تفرضه الشركات. ولم يعد في استطاعة المستهلك شراء ما يحتاج إليه فقط. وباتت المنتوجات البرامجية تشبه أطقم أواني المائدة التي تباع على سبيل المثال، زينة من كل نوع 12 ملعقة، 12 سكيناً.... وعند التساؤل عن لزوم هذه الكمية يجيب بائع الاواني: "ربما لزمتك يوماً ما". صحيح، يقول الشاري لنفسه فيدفع ويحمل الكيس ثم يخرج. وعندما يحل عليه ضيوف كثر، يتذكّر حنكة التاجر فيذكره بالخير. [email protected]