"ولما كان نيل الغاية على وجه أبعد من الخطر، وأقرب الى الظفر، يستدعي ان يكون للداعي في كل قلب سليم نفثة حق، ودعوة صدق، طلبوا عدة طرق لنشر أفكارهم بين من خفي عنه شأنهم من اخوانهم، واختاروا ان يكون لهم في هذه الأيام جريدة بأشرف لسان عندهم، وهو اللسان العربي، وأن تكون في مدينة حرة كمدينة باريس، ليتمكنوا بواسطتها من بث آرائهم، وتوصيل اصواتهم الى الأقطار القاصية، تنبيهاً للغافل وتذكيراً للذاهل، فرغبوا الى السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني ان ينشئ تلك الجريدة، بحيث تتبع مشربهم، وتذهب مذهبهم، فلبى رغبتهم، بل نادى حقاً واجباً عليه لدينه ووطنه، وكلف الشيخ محمد عبده ان يكون رئيس تحريرها، فكان ما حمل الأول على الاجابة حمل الثاني على الامتثال. وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال". بهذه العبارات الواضحة ختم جمال الدين الأفغاني تلك المقدمة التي نشرها في العدد الأول من صحيفة "العروة الوثقى"، والذي صدر يوم 13 آذار مارس 1884. وكان بذلك يعلن مولد ذلك العمل الصحافي الذي على رغم انه لم يصدر منه سوى ثمانية عشر عدداً، كان له دوي كبير في طول الشرق وعرضه، وأثر تأثيراً كبيراً على الكثير من المفكرين والكتّاب الذين كانوا، في ذلك الحين، يتطلعون الى الحرية والتقدم ويحسون انهم يفتقرون الى لسان الحال الذي يعبر عنهم. ولقد كانت "العروة الوثقى" لسان الحال ذاك، حتى وإن لم تستغرق فترة صدور اعدادها اليتيمة سوى سبعة أشهر لا غير، إذ تعرف ان العدد الثامن عشر الأخير قد صدر يوم 26 تشرين الأول اكتوبر من عام الصدور نفسه. لقد ارتبط اسم هذه الصحيفة التي سيقول محمد رشيد رضا لاحقاً ان اعدادها كانت زوادته على السفينة، ودافع تحركه، حين انتقل من طرابلس الى مصر ليعيش كتابته وحريته، ارتبط بالثنائي الأشهر من أبناء عصر النهضة: جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وكان الاثنان يعيشان آنذاك في المنفى الباريسي، بعدما أبعدهما تعسف السلطات الخديوية والاحتلال البريطاني في خارج مصر، غير ان تاريخ تلك الصحيفة الثورية، وتقديم المفكر محمد عبده ل"الاعمال الكاملة" لجمال الدين الأفغاني، يفيداننا ان اصدار "العروة الوثقى" لم يكن فردياً، أو ثنائياً، الى ذلك الحد. اذ ان الذي حدث هو ان جمال الدين الأفغاني حين وصل الى منفاه الباريسي. التقى بعدد من قادة الرأي في فرنسا، وأقام علاقات تعاون وتحالف بين المنظمات الاجتماعية والثورية، وبين جمعية "العروة الوثقى" السرية التي كانت قد تكونت في أوطان الشرق كي تكافح الاستعمار وتدعو الى التضامن الاسلامي والجامعة الاسلامية وتبشر بالتجديد والاصلاح. وكان الأفغاني رئيس هذه الجمعية التي كلفته باصدار مجلة عربية علنية من باريس تدعو لأهدافها، فصدرت مجلة "العروة الوثقى" التي أثرت في الشرق والشرقيين على ذلك العهد وبعده، كما لم تؤثر مجلة أخرى". ولئن كان محمد عمارة يتحدث بهذه الشاكلة عن تأسيس "العروة الوثقى" فإنه يعزو توقفها، بسرعة بعد بدء صدورها، الى "الحصار الذي فرضه الاستعمار الانكليزي عليها، فلقد حال بينها وبين الدخول الى البلاد التي خضعت لسلطانه، فمنعها عن المَواطن التي صدرت من أجل سكانها، وكان وجود نسخة من أحد اعدادها لدى مواطن هندي - كما يقول محمد عمارة - يكفي للحكم عليه بغرامة مئة جنيه وحبسه سنتين". ويورد عمارة أيضاً ان الأفغاني كان هو مدير سياسة "العروة الوثقى" بينما كان محررها الأول رئيس التحرير الشيخ محمد عبده، وكانا يصدرانها من غرفة متواضعة فوق سطح منزل في شارع "مارتل" الباريسي. ويضيف عمارة في هذا المجال "ان "العروة الوثقى" بأعدادها الثمانية عشر التي صدرت في باريس انما كانت تعبر عن سياسة الجمعية السرية السياسية التي حملت الاسم نفسه، وانتشرت تنظيماتها في عدد من بلاد الشرق، وبالذات تلك التي أصيبت باحتلال انكلترا لأوطانها وخصوصاً الهند ومصر. فهي، من هذه الزاوية، انما كانت تعبيراً عن تنظيم سياسي، نطقت علناً ببرنامجه السياسي السري وبالتالي فإنها أكبر من أن تكون تعبيراً عن فكر فرد واحد هو الأفغاني، أو فردين هما الأفغاني وعبده". في مقابل هذا يشير لويس عوض في سلسلة مقالات - أثارت ضجة كبيرة حين نشرت - عن جمال الدين الأفغاني، الى ما يوحي بأن "العروة الوثقى" انما صدرت أصلاً مع وعد بالدعم المالي من الأمير حليم، الذي كان يسعى، وهو في منفاه في اسطنبول، الى الوصول الى العرش في مصر، أو على الأقل مع أمل بالحصول على ذلك الدعم، ويتحدث عوض عن خطاب بعث به محمد عبده وزميل له يدعى الشوباشي وهو من العرابيين المنفيين، في كانون الثاني يناير 1884 أي قبل شهرين من صدور العدد الأول من "العروة الوثقى"، الى الأمير حليم في اسطنبول "يقولان فيه انهما حضرا الى باريس تنفيذاً لرغبته وعلى وعد منه بالمساعدة المالية لتحقيق غايتهم الوطنية المشتركة، وأن كلاً منهما ترك أسرته في بيروت". وفي هذا الخطاب - كما يقول لويس عوض - هاجم عبده والشوباشي اعوان الأمير حليم في باريس ولا سيما يعقوب صنوع ومحمد بك وهبه ناسبين اليهما أنهما "المسؤولان عن ابلاغ الأمير حليم بما كتبه الأفغاني عن سلبياته في صحيفة "انترانسيجان" الفرنسية ومن انه اشتهر بالإلحاد، ما يعني عدم صلاحيته لعرش مصر. وقال عبده والشوباشي في خطابهما للأمير حليم ان الافغاني، على رغم رأي حليم فيه قائد قوي و"هو رئيس جمعية جديدة قوية تعمل لتحرير مصر. مركزها باريس ولها فروع في مصر وبلاد الشرق". و"هذه الجمعية لها صلات ببعض كبار الساسة في فرنسا وانكلترا، ولا يعرقل عملها الا حاجتها الى المال" ومن هنا فإن الكاتبين "يرجوان الأمير حليم أن يبر بوعده فيرسل لهما 100 جنيه استرليني لتغطية نفقات السفر والعمل على تحرير الوطن". إن المرجح هو ان حليم لم يدفع. وقد يكون هذا الاستنكاف السبب الحقيقي الذي كمن وراء توقف "العروة الوثقى"، عن الصدور. ومهما يكن من الأمر من المؤكد ان ما صدر من هذه الصحيفة، حمل فكراً تنويرياً تجديدياً، وان اعداد "العروة الوثقى" كانت تصل - وبطرق سرية وغامضة - الى الكثير من المفكرين الاصلاحيين والى الأعيان في الكثير من البلدان العربية والاسلامية، وفي مقدمها مصر. أما كلفة هذا كله خلال شهور الصدور فيشير عوض الى أن جزءاً منها جاء من الخديوي اسماعيل نفسه، وجزءاً جاء من حسين باشا التونسي، كما ان السير ويلفريد بلنت ساعد في تمويلها أول الأمر، قبل أن يتوقف رافضاً المساهمة في تمويل صحيفة تعمل ضد بلاده انكلترا. بالنسبة الى منهج العروة الوثقى وأهدافها، يمكن تلخيصها على النحو التالي: خدمة الشرقيين على ما في الامكان، وتوضيح الطرق التي يجب سلوكها - البحث عن اصول اسباب ومناشئ العلل - كشف الغطاء عن الشبه التي شغلت اوهام المترفين - كشف ان الظهور في مظهر القوة يلزم له التمسك ببعض الأصول التي كان عليها اباء الشرقيين وأسلافهم - التنبيه الى أن التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية - دفع ما يُرمى به الشرقيون عموماً والمسلمون خصوصاً من التهم الباطلة - إبطال زعم الزاعمين ان المسلمين لا يتقدمون الى المدنية ما داموا على أصولهم التي فاز بها آباؤهم الأولون - تبليغ الشرقيين ما يمسهم من حوادث السياسة العمومية - تقوية الصلات العمومية بين الأمم...". وجمال الدين الأفغاني، مؤسس "العروة الوثقى" هو المفكر والسياسي والثوري الذي ينسب، في بعض الحالات، الى افغانستان، وفي حالات اخرى الى ايران - وثمة خلافات عميقة حول هذا الأمر -، وهو عاش معظم سنوات حياته، مناضلاً ضد الطغيان، متنقلاً بين البلدان مصر وايرانوالهندوفرنساواسطنبول وغيرها كاتباً منافحاً مجمعاً من حوله الحواريين والرفاق. وهو لم يخلف كتاباً كاملاً، لكنه خلف الكثير من الدراسات والمقالات، اضافة الى نص فريد عنوانه "الرد على الدهريين". المرجح انه ولد العام 1838. أما وفاته فكانت في العام 1897، بسبب داء السرطان كما قال البلاط العثماني، ومسموماً كما قال أنصار الأفغاني.