صدر حديثاً عن المركز القومي المصري للترجمة كتاب «بين الصحافة والأدب... النهضة عند إبراهيم المويلحي ومعاصريه»، للدكتورة ماري كلار بولحبال، أستاذة الدراسات العربية والإسلامية في مدرسة اللغات الشرقية ومعهد العلوم السياسية في باريس، وترجمة سونيا نجا. بذل المويلحي جهداً حثيثاً لتغيير المجتمع العربي وتطويره، وقد مال إلى الخديوي إسماعيل باعتباره مصرياً، وإلى العثمانيين باعتباره مسلماً، لكنه لم يؤيد لا الحكومة ولا الإمبراطورية العثمانية، وهاجم إنكلترا ونظام حمايتها. بين الشرق والغرب، بين القديم والحديث، اختار المويلحي القضية النهضوية التي كان بلا شك أحد روادها. انتمى إبراهيم المويلحي (1843 – 1906) إلى كوكبة من رواد النهضة الثقافية العربية، تضم ناصف اليازجي (1800- 1871) بطرس البستاني (1819 – 1883) أحمد فارس الشدياق (1804- 1887) وأديب إسحاق (1856 – 1884). وقد ولد المويلحي لعائلة ميسورة من تجار الحرير، وكانوا يجلبونه من شبه الجزيرة العربية وتحديداً من منطقة «المويلح» على حدود الساحل الآسيوي للبحر الأحمر، واختاره والده للاضطلاع بأعمال الأسرة التجارية. لم يكن هناك ما يشير إلى أن إبراهيم سيصبح صحافياً أو أديباً، ولكنه كان شغوفاً بالقراءة، وحاول جهده التعلم ووجد ضالَته لدى معلم يسكن بالقرب من مصنع الأسرة، حيث كلفه والده بتعلم تجارة الحرير وصناعته. رحل والده عام 1856 وتعثرت تجارته بعد رحيله عقب المضاربة في البورصة. ونظراً إلى العلاقة الطيبة بين أسرة الخديوي إسماعيل وآل المويلحي، أصدر الخديوي قراراً بتعيين إبراهيم المويلحي عضواً في مجلس الاستئناف لقاء راتب شهري مقداره أربعون جنيهاً مصرياً. كما عيَّنه رئيساً للمكتب العربي للمالية. وكان الخديوي يكن مودة كبيرة للمويلحي لدرجة أنه عهد إليه بمالية ودين البلاد. ولم تشغله مسؤولياته الرسمية عن عشقه للأدب والكتابة، فقد أسَّس بالاشتراك مع عارف باشا ناظر المالية «جمعية المعارف» التي كان هدفها نشر الأعمال الكلاسيكية بخاصة الأجنبية، وانضم إليهما محمد عثمان جلال (1828- 1898) وترجما معاً عام 1870 كتاباً عن الإيطالية في المسرح بعنوان «ألعاب التياترات»، كما تعاونا في تأسيس دار نشر خاصة اسمها «مويلحي»، كما أصدرا جريدة «نزهة الأفكار» عام 1870. ووقع اختيار الخديوي إسماعيل على المويلحي من دون غيره ليصحبه خلال فترة المنفى إلى أوروبا بعد أن عزلته السلطة العثمانية عام 1879. سافر المويلحي بصفته كاتم أسرار الخديوي إلى إيطاليا وأصدر جريدة «الخلافة» عام 1879 في نابولي وهو عنوان شديد الدلالة يوضح تأييد المويلحي للقضية الخديوية. ولاحقاً أسَّس المويلحي جريدة «الاتحاد» عام 1880 في باريس التي استقر فيها بصحبة الخديوي حتى عام 1884 وصدر منها ثلاثة أعداد ثم طرد المويلحي من فرنسا إلى بلجيكا عقب صدور العدد الرابع عام 1884. ثم لحق المويلحي بالأفغاني ومحمد عبده في لندن، وكان على اتصال بالأخير منذ تعاونهما في تحرير ونشر مجلتهما الشهيرة «العروة الوثقى» وظل في لندن لمدة عام واحد. وفي عام 1885 أرسل خطاباً للسلطان العثماني شرح فيه كيف كان في خدمة الخديوي إسماعيل. ودعاه السلطان للمجيء إلى اسطنبول وعيَّنه عضواً في مجلس التعليم العثماني العام. وامتدت إقامته في اسطنبول عشر سنوات راقب خلالها الحياة في قصر يلدز وكتب لصحيفة «الحقائق». عاد المويلحي إلى القاهرة عام 1895 وأصدر كتاب «ما هنالك»، وفيه يصف الحياة السياسية العثمانية من الداخل، ما أثار غضب السلطان وأمر بسحب نسخ الكتاب وحرقها. امتثل المويلحي للأمر لكنه تمكن من إخفاء بعض النسخ لدى عدد من أصدقائه. وكان المويلحي من أوائل المصريين الذين اهتموا بكتابة الدستور المصري خلال الفترة من 1871 حتى 1879، وظل حتى نهاية حياته متسقاً مع نفسه ومع أسلوبه ومبادئه وأفكاره، وقد ترك رؤية شاملة لفكره وعصره وقناعاته، وكان جل اهتمامه محاولة إيجاد قاسم مشترك بين الشرق والغرب، بين الأنا والآخر، طابقت كلماته أفعاله واصطبغ خطابه بالطابع الصحافي ذي السمة السياسية. تناول قضية العلاقة بين الشرق والغرب في صحيفة «مصباح الشرق»، ولفت انتباه أبناء الشرق إلى كونهم لا يسعون إلى معرفة الغربيين على حقيقتهم، ما يكرس لديهم الإحساس بالدونية. ورأى في المقابل أن أبناء الغرب لا يسعون إلى معرفة الجوانب الإيجابية لدى أبناء الشرق، ما يجعل الصورة لديهم ممعنة في السلبية. وطالب المويلحي بتطوير التربية والتعليم لمواجهة التحدي الإمبريالي واللحاق بركب الأمم المتحضرة، وقد وجه اللوم إلى الأزهر لإصراره على عدم مسايرة الزمن واستبعاده العلوم الحديثة بل والأدب تحت ذريعة تهديد مكانة الأمة والفقه في حال تدريس هذه العلوم. كما أكد ضرورة أن تحتل اللغة العربية مكانتها اللائقة في أوطانها، وفي مقال له في صحيفة «مصباح الشرق»، كتب: «ما قولكم في بلد لا لغة له ولا لسان يلزم فيها كل مواطن صحبة ترجمان». ودعا إلى تطوير اللغة العربية وتجديدها أسوة بما كتبه شكيب أرسلان من أن ضعف اللغة العربية هو أحد الأسباب التي أسهمت في إضعاف الدول العربية وتدهورها. ترك المويلحي عدداً من الكنوز الأدبية التي أسهمت في تطوير مسيرة النثر العربي منها مقامة «مرآة العالم» والتي تتناول قصة شاب يبحث عن حقيقته الإنسانية، عن فهم حقيقي للعالم والكيفية التي يسير بها، والبطل فيها الراوي موسى بن عصام المولع بالقراءة والمعرفة، ما يدفعه دوماً إلى تعلم المزيد وتحدي الأخطار أثناء رحلاته.