عندما فشلت قوات حلف الأطلسي في حسم أزمة كوسوفو عسكرياً، انتقل الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون الى باريس للاجتماع برؤساء دول الاتحاد الأوروبي وإبلاغهم أن بلاده قررت الاشتراك في الغارات الجوية. ويبدو أن كلينتون خاطب حكام أوروبا بأسلوب جاف فيه الكثير من التشاوف، حيث وصفه الرئيس الفرنسي جاك شيراك بأنه نسخة عصرية عن الامبراطور الروماني ماركوس أورليوس! وأُطلق هذا الوصف مرة ثانية على الرئيس جورج دبليو بوش إثر اعلانه الحرب على طالبان في أفغانستان، ورفضه الأخذ بنصيحة زعماء الحلف الأطلسي، خصوصاً انه كرر في أكثر من مناسبة ان الولاياتالمتحدة على استعداد لخوض غمار الحرب منفردة إذا تقاعست دول التحالف عن الاشتراك في الحملة العسكرية. وكان بهذا التحدي السافر يريد إثبات تفوق أميركا واستعدادها لمطاردة خصومها في أي مكان من العالم، تماماً كما كانت تفعل الامبراطورية الرومانية التي بسطت نفوذها على ثلاث قارات لمدة ألف عام تقريباً. ويُستدل من المراجع التاريخية أن مؤسسي الولاياتالمتحدة حرصوا على تقليد أنظمة الامبراطورية الرومانية وقوانينها السياسية والاجتماعية. كما حرصوا أيضاً على إدخال تنظيمات مجلسي التمثيل والشيوخ اللذين تميزت بهما روما في قوانين تنظيمات مجلسي النواب والشيوخ الاميركيين. والطريف أن مجلس الشيوخ الاميركي كان يعيّن من النخبة، تماماً كمجلس الشيوخ الروماني، لغاية سنة 1913، أي الى حين أُجري التعديل السابع عشر وسمح للشعب بانتخاب اعضاء مجلس الشيوخ. على صعيد الإعمار والبناء حاول الرؤساء الاميركيون تقليد اعمال أباطرة الرومان ومنجزاتهم المدهشة. فالنحاتون مثلاً صنعوا تماثيل جورج واشنطن والكسندر هاملتون وأندرو جاكسون في أشكال تماثيل الرومان وهم يرتدون القفاطين المتدلية الأطراف بدلاً من البذلات. وهذا ما يلاحظه باستغراب زوار المتحف الوطني في العاصمة الاميركية. وقد وصف الشاعر فيليب فرانو الرئيس واشنطن بأنه "بطل روماني" كشهادة على المغالاة في المديح والتكريم. ومثل هذا الميل الى المقارنة تجلى بوضوح عندما رفض جورج واشنطن نداء أنصاره لتجديد ولايته للمرة الثالثة، عندها اطلقت عليه الصحافة لقب "سيسناتوس الاميركي"، ولم يكن سيسناتوس سوى الامبراطور الروماني الذي مُنح سلطة ديكتاتورية لحكم البلاد، لكنه تخلى عنها واختار العزلة في مزرعته. ولعل الاقتداء بنموذج الهندسة الرومانية ظهر جلياً في مبنى الكابيتول الذي نُسخ تصميمه عن المباني الرومانية المعروفة بقبابها الفخمة المشيدة فوق أعمدة رخامية ضخمة. هذه الخلفية التاريخية تشير الى نزعة تقليد الامبراطورية الرومانية لدى زعماء الولاياتالمتحدة. وكان من الطبيعي أن تقوى هذه النزعة وتترسخ في نفوس الاميركيين بعد أفول الامبراطورية السوفياتية وبروز واشنطن عاصمة كونية للنظام العالمي الجديد. الى ذلك حاول الرئيس جورج بوش الأب اعطاء بلاده دوراً محورياً يليق بقيادة النظام العالمي الذي بشّر بولادته إثر انتصاره في حرب الخليج الثانية. ثم كرر التجربة مرة أخرى في مؤتمر مدريد تشرين الأول/ اكتوبر 1991 عندما احتكر الدور الرئيسي في العملية السلمية وفرض على الدول المعنية الاشتراك في مهرجان التسوية. في حزيران يونيو 1995 واجهت اوروبا الغربية أزمة حادة تتعلق بحرب البوسنة. ومع أن القتال كان يدور في قلب القارة، إلا ان القدرة العسكرية لدول حلف الأطلسي الأوروبية عجزت عن تحقيق انتصار ناجز يحسم المعركة العرقية. ولولا التدخل الاميركي لما توقفت تلك الأزمة التي رشحتها الصحف للتمدد والانتشار. ويبدو ان الرئيس بيل كلينتون أراد استثمار الانتصار الاميركي ليمارس من خلاله اسلوب التعامل الفوقي ويحرج زعماء اوروبا. وأظهر كلينتون في قمة دنفر ربيع 1997 تصرفات رعناء تفتقر الى اللياقة والكياسة والتهذيب السياسي، ذلك انه طلب من الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني هيلموت كول ورئيس وزراء ايطاليارومانو برودي وضيف المؤتمر بوريس يلتسن ارتداء سراويل "البلوجينز" واعتماد قبعات أهل تكساس واستخدام "جزم" رعاة البقر. وكان من الطبيعي ان يؤجج هذا العمل شعور النفور والتذمر لدى الرؤساء الذين اعتبروا ان رغبة كلينتون لم تكن بريئة. وكادت تلك القمة تفشل بسبب الحساسية حيال كل ما هو اميركي الطابع، خصوصاً أن الرئيس الفرنسي رأى في تصرف نظيره الاميركي عملاً استفزازياً مهيناً يوحي بالتبعيظة. أغلب الظن ان الانتصار العسكري الجديد الذي حققته الولاياتالمتحدة في أفغانستان أقلق حلفاءها الأوروبيين، وأشعرهم بالعجز العسكري حيال القوة الاميركية الضاربة، خصوصاً ان الانتصار على نظام "طالبان" رافقه نشوء تحالفات مع دول آسيوية جعلت "الامبراطورية الاميركية" تبسط زعامتها فوق الكتلتين الغربية والشرقية.وقد حذر بعض شيوخ الكونغرس من مخاطر التوسع خارج نطاق القوة المركزية. وقدّم المؤرخ بول كينيدي أمثلة من كتابه "نهوض وسقوط الامبراطوريات" لينبّه الى خطر امتداد الاطراف حيث تصبح عملية تغذية الجبهات النائية عبئاً ثقيلاً يرهق الخزينة والجيش. وفي رأي المؤرخ كينيدي ان سقوط الامبراطوريات العظمى، كالرومانية والاسبانية والعثمانية، نتج من فقدان قدرة التدخل في المناطق النائية، وصعوبة ضبط الحركات الاقليمية المقلقة، كما نتج أيضاً من ضعف السيطرة الاقتصادية والادارية على الأماكن المضطربة التي تحاول شق عصا الطاعة. يقول المدافعون عن سياسة توسع الهيمنة الاميركية ان واشنطن لا تغفل العامل الاقتصادي وتأثيره السلبي في سلامة الخزينة والوضع المالي. لذلك احتاطت للأمر، وفرضت على حليفاتها - كاليابان والمانيا - المساهمة بتمويل جزء كبير من نفقات الحرب. حدث هذا اثناء حرب الخليج الثانية، ويحدث حالياً في أفغانستان. واضافة الى هذه الالتزامات المالية التي يدفعها الحلفاء، فإن واشنطن تبتز الدول الغنية، وتقبض منها تكاليف حملاتها ووجودها العسكري، وهي لا ترى أن حضورها البعيد يحافظ فقط على النظام العالمي الذي تحاول تثبيته في أوروبا وأفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وانما يعمم قيمها الاميركية لدى المجتمعات الأخرى. والملاحظ أن هذه النزعة بدأت في اليابان مع الانتصار الذي حققه الجنرال ماك آرثر، ذلك انه شرع في نشر قيم بلاده من خلال الاساءة الى الامبراطور واجباره على مغادرة قصره والنزول الى الشارع بهدف اقناع المواطنين ان هيروهيتو ليس ابن الشمس - كما يعتقدون - انما هو بشر مثلهم. وبما ان الياباني يعتبر هذا العمل مخالفاً لمعتقداته وتقاليده المتوارثة، فقد تسبب ذلك في تزايد روح الكراهية والبغضاء للمستعمر الجديد. ولم يكتف الاميركيون بهذا المقدار من الاساءة، انما جربوا الغاء الهوية السياسية والاجتماعية لشعب متميز، عن طريق بث شحنات ايديولوجية تساعدهم على نبذ معاييرهم الخاصة. وهذا ما فعلوه في روسيا ودول المنظومة الاشتراكية بعد نهاية الحرب الباردة، الأمر الذي أدى الى انتشار الفوضى والبلبلة، كما أدى بالتالي الى تشبث سكان هذه البلدان بقيمهم الوطنية ورفض المرجعية الاميركية. ويبدو أن زحف "الأمركة" الممثلة برأسمالية السوق وفشل نظام القطبين ساعدا على انهيار الأفكار والعقائد والمؤسسات القائمة، كما ساهما بالتالي في ظهور حركات جماهيرية منفلتة من رقابة الدول، مثل الحركة التي قادها أسامة بن لادن في تنظيم "القاعدة". والملاحظ أن الاختراقات الاقتصادية والانتصارات العسكرية التي حققتها الولاياتالمتحدة تحولت الى جسر لعبور انماطها الثقافية الى بلدان اخرى. ودخلت هذه الأنماط والنماذج في أذواق الأوروبيين والروس ومعظم دول العالم الثالث بفضل هيمنة أميركا على شبكة المعلومات والسينما وسوق الأموال الدولية وعولمة الاقتصاد والتقنيات. هل هذا يعني ان "الامبراطورية الاميركية" ليست معرضة للانهيار، وان انتصاراتها العسكرية في الخارج ستوفر لها ضمانات الوحدة والتماسك في الداخل؟! يقول المؤرخ الاميركي - الافريقي جون هوب فرانكلن، ان المشكلة الكبرى تتعدى علاقة السود بالبيض لتصل الى علاقات مختلف الأقليات القومية والعرقية التي تتألف منها الولاياتالمتحدة. وهو يجزم بأن السكان البيض سيصبحون أقلية خلال ربع قرن، الأمر الذي يعرض البلاد لمواجهة قضايا المجموعات العرقية الأخرى. ومن خلال هذا التغيير الديموغرافي المنتظر يبرز نفوذ الجالية الاسبانية الأصل وضعاً طاغياً حتى على السود الذين يشكلون 13 في المئة تقريباً من المجتمع الاميركي، أي أكثر من32 مليون نسمة من أصل 255 مليوناً. وقد ظهرت منذ مدة حركة أطلقت على نفسها "جماعة جمهورية تكساس" معلنة رفضها الاعتراف بسيادة الحكومة الاتحادية. والمعروف ان ولاية تكساس كانت جمهورية مستقلة الى أن ضُمت الى الاتحاد عام 1845. ويبدو ان النزعة الانفصالية تنامت بعد ظهور تشريعات تحد من سلطة الحكومة الاتحادية. ويعبّر الكاتب والصحافي ادوارد باهر في كتابه "اميركا التي تخيف" عن هواجس مقلقة، خلاصتها ان الامبراطورية الاميركية ستتفكك من الداخل كالامبراطورية الرومانية. وهو يقول ان مصدر التفكك ثلاثة عوامل: حرب البيض والسود، حرب الأعراق والإثنيات وحرب الرجال والنساء. على المستوى الخارجي، تبقى اسرائيل نقطة الضعف الأقوى في الجسم السياسي الاميركي. وقد تصور المراقبون ان واشنطن لم تعد بحاجة الى اسرائيل حليفاً استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وبنى الرئيس السابق جورج بوش الأب كل حساباته في مؤتمر مدريد عام 1991، على هذا الموقف، بخلاف نجله الذي قال لأحد السفراء العرب انه لا يريد تكرار الخطأ الذي ارتكبه والده عندما خسر معركة التجديد لأنه فرض على اسرائيل مفاوضات السلام. وبما انه هو شخصياً يرغب في تجديد ولايته، فإن ممارسات دوره في عملية السلام ستتجنب الصدام مع شارون أو سواه من حكام الدولة العبرية. لهذا السبب تبنى بوش الابن التكتيك التفاوضي الاسرائيلي الذي يؤدي الى تفكيك مسارات التفاوض لإضعاف امكانات التنسيق والتماسك العربي. من هنا القول ان انحياز الدور الاميركي لاسرائيل واحتكار عملية التسوية يشكلان الضعف الأساسي لامبراطورية تحاول إرساء نظام عالمي، وهي عاجزة عن ارساء سلام عادل في الشرق الأوسط! * كاتب وصحافي لبناني.