ظلت الحرب الأهلية الاسبانية 1936 - 1939 موضوعاً مؤلماً، مثيراً ومتواصلاً في فنون الكتابة والرسم والسينما، يتعدى الساحة المحلية الاسبانية، منذ ولادة لوحة بيكاسو، غورنيكا 1936، والفيلم التسجيلي الشهير ليوريس ايفنس، أرض اسبانيا 1937 ورواية ارنست هيمنغواي، لمن تقرع الأجراس 1940، وأفلام لويس بونويل وأشعار رفائيل البرتي في سنواتهما الطويلة في المنفى، وقد لا نستطيع ان ننسى كتابات اندريه مالرو، أو أراغون. ولم تستطع الحرب العالمية الثانية بامتداداتها الواسعة أن تمحو عقدة الألم في ضمائر أجيال من المبدعين الاسبان، كما لم يكن موت الديكتاتور فرانكو عام 1975 الصفحة الأخيرة في كتاب الحكايات المفتوحة لتلك الحرب التي حصدت في بدايتها جسد الشاعر الغرناطي المبدع لوركا، قبل ان تحصد رأس ناشر أعماله، في طاحونة التراجيديا الاسبانية. أما القاص والروائي الاسباني مانويل ريغاس فإنه يضع تلك الحرب كخلفية غائمة لحركة الشخصيات المختلفة، من الضحايا والجلادين، في رواية "قلم النجار" التي صدرت للتو بالعربية بترجمة صالح علماني، عن دار نينوى بدمشق - 156 صفحة. لعل قلم النجار، قلم الرصاص المفلطح الأحمر المغمور، يتحول الى شخصية روائية، يتوازى مصيرها مع مصائر الأيدي التي رسمت، أو كتبت به، والآذان التي استراح فوقها، وهمس لها بإيحاءات منقولة بأصوات الشخصيات التي عاش معها، قبل أن يرثه العريف الجلاد هيربال من أحد ضحاياه، وظل يلازمه الى ما بعد نهاية خدمته العسكرية. كان قلم النجار ملكاً لنقابي دعا الى الاضراب لتقصير ساعات العمل، ثم أهداه الى نجار آخر كان يبدأ خطاباته النقابية بالحديث عن الحب، ووصل الى نجار ثالث، أهداه الى رسام في السجن، كان يحاول الرسم بفتات القرميد، فراح يرسم بالقلم "بوابة المجد" وعليها وجوه زملائه من المساجين بدلاً من وجوه القديسين، وبعد أن نفذ العريف هيربال حكم الاعدام بهذا الرسام استولى على هذا القلم، واستذكر من خلاله صوراً وأقوالاً لذلك الرسام الذي أعدم في "النزهات الليلية" لفريق الاعدام، الذي كان العريف هيربال أحد أعضائه. غير ان الشخصية المحورية في هذه الرواية هي الدكتور "دانييل داباركا" الذي نجا من الموت في حقول الاعدام مرتين، مرة من خلال طلقة خلبية، في لعبة "الموت المؤجل"، ومرة بطلقة حية اخترقت عنقه، ولكنها لم تكن قاتلة، ولم تستطع السلطات بعد ذلك تنفيذ الحكم عليه بالاعدام لأنه كان يحمل الجنسية الكوبية، اضافة الى الجنسية الاسبانية، وكان النظام في كوبا حليفاً للنظام العسكري في اسبانيا، وكانت الصحافة في الخارج، وفي كوبا بالذات، تثير أسئلة حادة عن حيثيات هذا الطبيب المسالم، وتنقل فقرات من مرافعته أمام المحكمة، حيث لم يدافع عن نفسه، كما يفعل المتهمون أو المحامون، وانما راح يقرأ أشعاراً، وكأنه يرفع طيارة ورقية بيده، ثم تحدث عن فتى طيب من عمال المناجم، كان من ضحايا حملة الاعدامات، وحينما تحدث عن العدالة ذات العينين المعصوبتين والسمع المرهف، قاطعه رئيس المحكمة قائلاً: ادخل في الموضوع مباشرة، فهذا المكان ليس منتدى فكرياً. يقول داباركا عن نفسه: "انني عائد من الفضاء الخارجي، ولهذا فإن لدي متاعب في التنفس"، وتضاف الى هذا القول أقوال أخرى تؤكد بساطته وجاذبيته وغموضه معاً، وتشاركه في تجربته زوجته ماريسا مالو، التي كانت تزوره في السجن فتبهر بجمالها وحراس السجن الذين يقدمون لها طوعاً خدمات غير مألوفة لدى الزوار والمساجين، فتمكنت من تهريب أجزاء مسدس حربي في زيارات متعددة الى السجن، لمساعدة داباركا في الهرب. ان داباركا الذي لا يشبه أحداً في حياته يتجاهل المنطق المألوف ويبتكر مصطلحات وتسميات خاصة ويلتقط من قراءاته القديمة أشعاراً نادرة لم يكتشف اهميتها أحد من القراء والمثقفين، فالمسلولون يحملون في ملامحهم شيئاً من "الجمال السلي"، وأولئك الذين بترت أرجلهم قد يعانون من "الألم الشبحي" الذي يتركز في الأعضاء المنفصلة المبتورة، وليس في الأعضاء الحية المتصلة بهم، وهو في أسلوبه الخاص وحركاته الغريبة يثير الاشتباه بأنه ملغز ومحير للسلطة، وأنه ينتمي الى تنظيم معاد، ولكن رسائله التي تخرج من السجن لا تحمل إلا الحديث عن الرياضة وأنديتها ولاعبيها، وهذا ما يزيد اللغز غموضاً لدى المحققين الذين يرهقون أنفسهم في تحديد هويته وانتمائه و"خطورته"... مع ان هوايته المفضلة كانت الاستماع الى غناء الشحارير، فهو يردد قصيدة كتبها الشاعر الكاهن المناهض للفاشية فاوستينو ري رميرو، عن "الشحرور"، يقول فيها: "عاطفة كبيرة وأنغام كثيرة حبيسة في عروقك عاطفة تضاف الى أخرى لن يتسع لها جسدك الضئيل". ان الدكتور داباركا من الشخصيات النادرة التي لا تتكرر في مكان أو زمان واحد، فهو منسجم مع نفسه، يحتوي الأحداث المفاجئة والمواقف الخطرة بهدوء الواثق من نفسه، وهو يحب كل الناس من حوله، ويقدم لهم كل ما يستطيع، فبعد أن عاد من المكسيك، حيث قيل انه كان يلتقي مع تشي غيفارا هناك، فتح باب بيته لكل الزائرين والمرضى، أما العريف هيربال، العجوز المتقاعد، فإنه أصيب بصدمة حينما قرأ في احدى الصحف نعياً للدكتور داباركا وزوجته ماريسا مالو، فانفرد بنفسه وهو يتذكر الألم الشبحي.