} الحملة الشعبية المطالبة بتعليم اللغة الكردية التي ما تزال مستمرة منذ الأسبوع الماضي، وتعامل السلطات التركية مع هذه الحملة بمفهوم امني وبأسلوب ادى الى اعتقال المئات وتحويل العشرات الى محاكم امن الدولة ومعاقبة طلاب المدارس منهم بالفصل الموقت، يوشك كل ذلك على اعادة فتح الملف الكردي في تركيا وربما بشكل اخطر مما كان عليه سابقاً. وتشير الأنباء الى ان حوالى عشرة آلاف شخص تقدموا بطلبات رسمية لتعليم اللغة الكردية في المدارس والجامعات التركية. يكفل الدستور التركي للمواطنين حق التقدم بأي طلب رسمي للسلطات من دون ان يستوجب ذلك معاقبة المتقدم على طلبه لأي سبب كان. فمن حق المواطن ان يطالب بأي شيء ومن حق السلطات ان ترفض طلبه، لكن اعتبار مقدم الطلب متعاوناً مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي، ومعاقبته على التقدم بهذا الطلب من خلال احالته الى محكمة امن الدولة، سيضع تركيا في موقف حرج امام الاتحاد الأوروبي ولن يساعد على تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، خصوصاً ان هذه الحوادث تقع في وقت يناقش فيه البرلمان التركي كيفية تطبيق الإصلاحات السياسية التي اجراها الخريف الماضي تحت ضغوط الاتحاد الأوروبي، بشأن توسيع الحريات والسماح للقوميات في تركيا بالتعلّم والتدريب والنشر باللغة الأم. وفي المقابل اثار هذا التنظيم الجماهيري الذي حشد عشرة آلاف شخص للمطالبة بالغرض نفسه في الوقت نفسه من دون الإعلان عن منظم الحملة، حساسية الأوساط الأمنية التي رأت في حزب العمال الكردستاني انه وراء العمل. وأثارت هذه الحملة الشبهات حول اهدافها، خصوصاً أن البرلمان اصبح قاب قوسين من إقرار حق التعليم والنشر للأكراد وغيرهم، قبل آذار مارس المقبل، وهو الأمر الذي دفع سلطات الأمن للقول إن الهدف الحقيقي من هذه الحملة هو التحريض على العصيان المدني وإثارة الفتنة. فالمدير العام للأمن التركي كمال اونال قال: إن ما يفهمه من تعبير حقوق الإنسان هو توفير الشروط الأمنية والسلام من اجل سلامة المواطن وعيشه في جوّ من الأمن يوفر له بعد ذلك الحرية. وهي مقولة تجدد نظرية انقرة في التعامل مع الملفات الحساسة وهي تقديم الأمن على ما سواه من مفاهيم حقوق الإنسان والديموقراطية. هذا المفهوم يبرز كلما أحست انقرة بتحرك من قبل حزب العمال الكردستاني ويتراجع، أو ينقلب احياناً، عندما يلزم ذلك الحزب الكردي الصمت. وفي المحصلة فإن رد فعل انقرة الأمني الذي لفت الأنظار المحلية والدولية، يؤكد مجدداً تأخر تركيا في إعداد سياسة واضحة لاحتواء الملف الكردي. اي ان السلطات التركية ومنذ إلقائها القبض على عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني في شباط فبراير عام 1999، وإعلان الحزب وقف القتال، اهملت السلطات وضع خطة سياسية لمعالجة المسألة الكردية، أو لربما ظن بعض المسؤولين الأتراك ان المشكلة انتهت بهزيمة حزب العمال عسكرياً. فالإصلاحات الدستورية التي أقرها البرلمان الخريف الماضي، واعتبرها الاتحاد الأوروبي "مقبولة" كأدنى حد، لا تلقى صدىً ايجابياً في الأوساط الكردية في تركيا، خصوصاً بعد تصريح قائد الأركان الفريق اول حسين كفرك اوغلو الذي اوضح ان هذه الإصلاحات لا تعني السماح بتعليم اللغة الكردية في المدارس، كما دفع الأكراد للاعتقاد بأن ما سيصدر عن البرلمان قريباً من قوانين، لن تكون إلا لذر الرماد في العيون. وكذلك جاءت هذه الحملة المطالبة بتعليم اللغة لتأكيد اصرار الأكراد الحصول على هذا الحق وإسماع صوتهم للبرلمان، ودعوة الجانب الأوروبي للتدخل في الوقت الذي تتم مناقشة هذه القوانين في البرلمان التركي. والأخطر من ذلك هو اعتبار الجناح السياسي للأكراد في تركيا ان ما يمكن ان يقره البرلمان من حقوق للأكراد لن تكون كافية ولا مرضية بالنسبة إليهم، طالما لم يعترف الدستور بوجود قومية كردية في تركيا، وهو ما تحاول الإصلاحات السياسية الالتفاف عليه. فالإصلاحات التي تتم مناقشتها الآن تقول بإعطاء الحق في التعليم والنشر باللغة الأم لكل المواطنين في تركيا من دون الإشارة الى الأكراد أو غيرهم، لأن الدولة تعتبر الاعتراف بوجود الأكراد كقومية سيؤدي لا شك مستقبلاً الى تقسيم تركيا، وسيضع الملف الكردي على طريق ما سار إليه في العراق من خلال الحصول على حكم ذاتي، وهو ما لا تقبل به المؤسسة العسكرية. ويؤكذ ذلك ما نشرته الأوساط الأمنية التركية من قائمة شروط تقول ان على حزب العمال الكردستاني ان يثبت حسن نياته وأنه لا يسعى للانفصال، حتى يتمكن بعد ذلك من الإفادة مما يوفره الدستور من حرية الرأي والتعبير. ومن اهم ما جاء في تلك الشروط كان تسليم من تبقى من عناصر الحزب للأمن التركي وإحالتهم للمحاكمة، وإلغاء كلمة كردستان من قاموسهم اللغوي، وإلغاء كل الجمعيات والمؤسسات التي تحمل صفة الكردي في الخارج ومنها البرلمان الوطني الكردي والبنك الكردي ومؤسسة رجال الأعمال الأكراد. وهو ما يتصادم تماماً مع فحوى المطالب الكردية. اي توسيع الحريات والاعتراف بحزب سياسي، وقنوات تلفزيون خاصة كردية. وما يبدو مقبولاً من وجهة نظر الاتحاد الأوروبي امر مرفوض تماماً في تركيا. ومحاولات ذلك الحزب لاقتحام الساحة السياسية ولو من بعيد، من خلال حملاته الشعبية هذه، ومناوراته الإعلامية والسياسية في اطار قانوني، مستفيداً من الضغوط الأوروبية، والإصلاحات السياسية التركية، كل ذلك يشير الى أن حزب العمال الكردستاني سيعود ليوجع رأس الدولة من جديد من دون استخدام السلاح او اعلان الحرب عليها مثلما فعل سابقاً. وعلى أنقرة الآن، التي اعتقدت انها اغلقت ملف حزب العمال الكردستاني، ان تجد صيغة توفق فيها بين استراتيجيتها القومية، الرافضة للاعتراف بوجود الأكراد وقوميتهم، وما ستجلبه الإصلاحات الدستورية الجديدة من فرص للأكراد للمطالبة بحقوق سياسية وحريات اكبر. وفي هذا الإطار يكون عامل تدخل الاتحاد الأوروبي حاسماً، ولكن لمصلحة من، لمصلحة تركيا التي يحرص الاتحاد على عدم القطع معها، ام لمصلحة الأكراد الذين يتمتعون بدعم كبير داخل منظمات الاتحاد الأوروبي. وهو خيار صعب لكن لا بد له ان يتحدد قبل قمة مدريد التي ستعقد في حزيران يونيو المقبل. الى ذلك التاريخ على تركيا ايضاً ان تجد صيغة للتعامل مع اطروحات حزب العمال الكردستاني السياسية، وأن تقرر اسلوب التعامل معه، اما بالحوار، أو بالخيار الأمني والمقاطعة، لاسيما ان المحكمة الدستورية العليا توشك على إصدار قرار بحل حزب الشعب الديموقراطي المتنفس الوحيد للمطالب الكردية في تركيا الذي تشير استطلاعات الرأي الأخيرة الى أن شعبيته تعاظمت في جنوب شرق تركيا وأصبح الحزب الأول من دون منازع في منطقة تضم حوالى خمسة ملايين مواطن، ويرجح ان يحصل على نسبة 10 في المئة من مجموع اصوات الناخبين مما يرشحه لدخول البرلمان في الانتخابات المقبلة إذا ما ادركها. وإذا كانت درجة الانزعاج وصلت اقصاها في تعاظم شعبية حزب الشعب الديموقراطي، فكيف سيكون الحال إذا ما حلت المحكمة الدستورية ذلك الحزب وشكل الأكراد حزبهم. لا شك في ان انقرة تجد نفسها وجهاً لوجه مع حزب العمال متنكراً خلف قناع اعلامي. ومن ناحية اخرى، تجد الأحزاب السياسية التركية نفسها عاجزة عن ايجاد اي صيغة سياسية للتعامل مع الملف الكردي بعد ان اعتادت لسنوات، ترك ذلك الملف للمؤسسة تتصرف فيه كما تشاء. كما ان إصرار المؤسسة العسكرية على استراتيجيتها الأتاتوركية القومية، لا تدع مجالاً للأحزاب السياسية للمناورة او احياء أساليب سياسية للتعامل مع الملف الكردي، وترى نفسها مطالبة بإقناع الأكراد والمحافل الدولية بوجهة نظر المؤسسة العسكرية وهو ما لا يجدي نفعاً.