توصلت احصائية طريفة أجريت على ألف امرأة وألف رجل، الى استنتاجات تلفت الانتباه حول الموضوعات الشائعة في أحاديث كل من الطرفين، مما يمثل اهتمامات كل من الرجال والنساء. وبحسب هذه الاحصائية، فليس لدى الرجال سوى أربعة موضوعات يتحدثون فيها حين يجتمعون: الجنس، العمل، قليل من السياسة، قليل من النكات. أما دردشات النساء فتشتمل على أربعين موضوعاً! من بينها الجنس والعمل والسياسة والنكات بالاضافة الى الصحة، الطبيعة، الأصدقاء، الضغوط، الموسيقى، الأسعار، الثقافة، الأطفال، الأسرة، الدين، الطقس... الخ. والرجال - بحسب الاحصائية - يتحدثون باقتضاب. وإذا ما كان الحديث على الهاتف فانهم ينهون المكالمة حال الانتهاء من الحديث عن الموضوع الذي من أجله أجروا الاتصال. أما النساء فعلى العكس. فهن يستفضن في الحديث ويتنقلن بين الموضوعات بمرونة ويُجدن الربط بين المدركات التي قد لا تبدو للرجال على صلة منطقية. يمكن بالطبع تفسير هذه الاستنتاجات بقوة تأثير التوقعات الاجتماعية. فالذكورة محددة بتوقعات صارمة إذا ما تخطاها الرجل أو لم يعبأ بها صار موضع السخرية. وقد يصل به الأمر الى حدود التشكيك في رجولته، فيوصف عندذاك بأنه مخنّث، أو محب لصحبة النساء "نسيواني!". فإذا ما كان الرجل كثير الكلام أو المزاح أو الضحك، أو إذا ما تعاطى أحاديث تخص شؤون البيت والأسرة، وبخاصة إذا ما نمّ حديثه عن أنه "يحط يده" في أعمال المنزل، فإنه يوضع على هامش الذكورة حتى من قبل النساء. أتذكر أن مجموعة من الزميلات كن يطلقن على زميل لنا يتصف بالصفات التي ذكرتها، لقب "أختنا الكبيرة!". وبالمناسبة، فإن التوقعات المتحكمة في النظرة الى الذكورة والأنوثة انما تقوم على أساس صفات "المثال". لكن هذا المثال ليس مطلقاً، بل محدد بالذكورة. ولعل أحلام المساواة انما تستهدف تفكيك القالب من حول المثال ليشمل ما يمكن أن نصفه بأنه الانسان، بغض النظر عن جنسه. وعلى ذلك فالمرأة غير العادية في نظر المجتمع، يتوقع منها التوقعات المنتظرة من الرجل. من جانب آخر، يبدو أن التوقعات المحيطة بموقع الانوثة الهامشي، تطلق قدرات النساء الى مديات رحبة حقاً. إلا أن ذلك لن يجعلنا نغفل عن السر الحقيقي لسعة اهتمامات النساء وقد عبّر عنها بعدد الموضوعات التي تشتمل عليها أحاديثهن: عشرة أضعاف ما لدى الرجال. وأعني به قرب المرأة من محور الحياة وبؤرة حركتها: الأسرة. وإذا ما اقترنت شؤون الأسرة بشؤون العمل تميزت حياة المرأة بشدة التنوع في المسؤوليات والواجبات والاهتمامات والخبرات والتجارب. ولننظر الى انجاب الأطفال وتربيتهم وكم تمنح المرأة من المرونة العاطفية والفكرية. ولنتأمل المساحة الواسعة من الخبرات التي تقاربها المرأة بهذا الصدد، واللائحة الطويلة من الموضوعات التي تعالجها ابتداء من الجادّ الذي يعنيها شخصياً، حتى التافه الذي يعني أصغر أفراد العائلة المسؤولة عن التعاطي مع أفكاره ومشاعره ومتطلباته... الخ. ولننظر الى خبرة التعاون والتكافل ما بين النساء. والى خبرة الحذر في التعاطي مع الرجال خارج منزلها. والى تقلبات مركز المرأة ما بين الطفولة والصبا والشباب والنضج، وهي مراحل تضعها في مواقع مختلفة من منظومة المعايير والقيم المحددة لقيمتها في المجتمع. إن خبرات النساء المستحصلة من شدة ودوام احتكاكها بحركة الحياة وفي موقع البؤرة من هذه الحركة، تجعل المرأة على قدر عال من الحساسية ب"حال" القيم. انها في الواقع في المركز. وهذه المركزية تجعل من تنوع موضوعات أحاديث النساء وسائل فعالة لقياس حال المعايير المتواطأ عليها في المجتمع.وقد قرأت أخيراً بحثاً حول دور "النميمة"، الموصوفة دائماً بأنها نشاط نسوي، في تفحص صلاحية القيم، واشاعة ما يطرأ عليها من تحولات وتجاوزات، فوجدت ذلك داعياً للتفكر في الأمر. فالنساء بالفعل هن من يتولى إثارة الجدل والنزاعات والمساجلات حول الثوابت والمتغيرات الاجتماعية عن طريق النقد المتواصل للسلوك الفردي والجماعي، وذلك لأن المرأة في الواقع هي المسؤولة عن هذه التغيرات أمام الرجل. فهي التي تربي الأبناء وهي التي تدرك أسرار الانزياحات في سلوكهم، وهي التي تواجه الرجل "حارس القيم"، ولينتج عن هذه المواجهات تلك المواقع الثابتة أو المتحولة أو المترجرجة للمعايير والقيم المتواطأ عليها لجمع بشري في زمان ومكان محددين. في واقع الأمر، لا يستطيع أحد أبداً الحكم على موقع المرأة في الحياة، هل هو موقع مركزي أم هامشي. انه مثل قطرة الزئبق دائمة الارتجاف ما أن تُمس حتى تتشظى وتتناثر. لكن الهامشية هي الصفة التي تسم قيمة مركز المرأة بصفة عامة. وأحسب ان سعة مساحة الموضوعات التي تشتمل عليها أحايث النساء انما تعود الى الازدواج الزئبقي لصفة دورها من ناحية، ولغلبة السمة الهامشية عليه في النهاية. وكما ذكرنا فإن التوقعات المحيطة بالانوثة تطلق قدرات النساء نحو مديات رحبة. نذكر بهذا الصدد ما يذكر عادة عن دور الفئات الهامشية في المجتمعات الانسانية عبر التاريخ وفي مراحل الانهيارات والعنف. اذ يتصدى الهامشيون والمنبوذون للتعبير بواسطة الكوميديا، منطلقين عبر مساحات واسعة من الحركة تتيحها لهم مراكزهم البعيدة عن "التقييس". فقد يشتم المهرج الامبراطور أو يسخر منه، ونظرة واحدة من شخص في مركز الحياة قد تودي به إلى الهلاك. وقد تدور نكتة حول مدينة خلال ساعات، وتعجز كلمة جادة واحدة عن الانتقال من فم الى أذن. فلعل التهوين الدائم من شأن ثرثرات "النسوان" قد أطلق قدراتهن على توسيع اهتماماتهن وتطوير وسائلهن لوعي خبراتهن وإدراك أهمية تنوعها. وأني لأتساءل، هل "لذلك" لا يلبث الرجال والنساء أن ينفصلوا كل في زاوية كلما اجتمعوا، بعدما يستنفدون سريعاً ما يجمعهم من موضوعات مشتركة، أحدها لا يصلح بالتأكيد ليكون موضوعاً مشتركاً؟!